وكالات - عقل أبو قرع - النجاح الإخباري - خلال أسابيع أو أقل يبدأ الطلبة الجدد، أي الذين أنهوا التعليم الثانوي أو المدرسي، في دراسة خيارات التوجه إلى مسارات التعليم العالي أو إلى مسار التعليم المهني، الذي أضحى خلال السنوات القليلة الماضية مساراً واضحاً ويأخذ زخماً متزايداً.
 ورغم أن خيارات الطلبة في مؤسسات التعليم العالي والتي عرفوها من خلال تعبئة طلبات الالتحاق أو من خلال النشرات، هي خيارات محدودة ومكررة في كل الجامعات رغم الإضافات غير النوعية هنا أو هناك، وأنها أصبحت لا تمتّ بصلة إلى واقعنا ومجتمعنا وأولوياته ومتطلبات سوق العمل.
 ورغم نسب البطالة التي تتصاعد عاماً بعد آخر وتداعياتها الوخيمة في كافة الاتجاهات، وفي ظل ضعف التخطيط الرسمي وغير الرسمي لهؤلاء الطلبة، وضعف الوعي وتشبث المجتمع بمعايير عفا عليها الزمن، رغم كل ذلك إلا أن غالبية الطلبة يتجهون الى مقاعد مؤسسات التعليم العالي التقليدية الكلاسيكية ويبتعدون عن مسارات التعليم المهني التي تميزت في الفترة الأخيرة بإضافات نوعية وتواكب متطلبات ومستجدات سوق العمل عندنا وفي الخارج، وبالتالي يقضون سنوات ويتحملون جهداً وأعباء مالية، وهم يعلمون بأن هذه المسارات لن تضمن لهم مستقبلاً واعداً أو تلبي طموحاتهم أو تساهم في تنمية وتطوير مجتمعهم.  
وفي ظل الاضطراب والقلق الذي يصاحب الطلبة الجدد وأولياء أمورهم قبل التوجه إلى مقاعد الجامعات أو الكليات المختلفة، خلال الأسابيع القادمة، وفي ظل عدم حدوث أي تغيير جذري في فلسفة ومفهوم ونوعية التعليم وبالأخص التعليم العالي، وكذلك في ظل الأرقام المرعبة حول نسب البطالة عند خريجي التعليم العالي، وفي نفس الوقت ارتفاع تكاليف التعليم العالي وبالأخص في الظروف الحالية، ووجود تخصصات مكررة كلاسيكية، بات خريجوها في انفصام عن سوق العمل عندنا واحتياجاته، وباتت احتياجات المجتمع بعيدة كل البعد عن مخرجاتها، يصبح مسار التعليم المهني خياراً جدياً واقعياً يستدعي الدعم والتسويق له.   
فالتعليم المهني يرتبط بشكل مباشر بآفاق العمل والتشغيل والبطالة والتنمية والتطور، وفي بلادنا تبلغ نسبة البطالة وحسب الإحصاءات الحديثة نحو 27% من القوى العاملة، وتصل هذه النسبة معدلات أعلى بكثير عند الخريجين الجامعيين، وقد تصل إلى حوالي 85% عند الخريجين الجدد في بعض التخصصات المكررة في معظم الجامعات المحلية، وهذا الوضع  مأساوي بكل معنى الكلمة، مأساوي للخريجين ولعائلاتهم التي استثمرت فيهم، وللوزارات المختلفة، سواء تلك المعنية بالتعليم العالي والتخطيط والعمل والاقتصاد وما الى ذلك، وكذلك مأساوي للمجتمع الذي يعتمد من اجل النمو والتقدم والتنمية على استثمار هذه الأجيال المتعلمة والمتدربة، في تطوير مجالاته المختلفة.  
وفي ظل هذا الوضع، يجب التأكيد على أهمية التعليم المهني او التقني، او التعليم غير الجامعي والذي هو ربما هو أهم من التعليم الجامعي في بلادنا، والذي تستثمر فيه الدول المتقدمة الجزء الأكبر من الميزانية ومن الخطط الاستراتيجية، والذي يقبل عليه الكثير في هذه الدول، ورغم الاهتمام المتزايد في التعليم المهني عندنا، إلا أن القليل قد تم على الصعيد العملي، من اجل تشجيع الإقبال على هذا التعليم أو خلق الفرص والإمكانيات من أجل توجه الطلبة نحوه، ومن ثم ربطه وبشكل استراتيجي، سواء من حيث الكم أو النوع  مع احتياجات المجتمع.
وللسير في هذا الاتجاه، مطلوب وجود سياسات وقوانين وأنظمة من أجل زيادة الإقبال على هذا التعليم، وهذه القوانين من المفترض ان تحدد الأسس ومن ثم الحوافز من أجل التوجه الى هذا التعليم، وهذا يتطلب إيجاد تخصصات متقدمة ومحترمة وتساهم في تقدم المجتمع، كما ساهمت في تقدم مجتمعات أخرى وليس فقط تخصصات اعتاد الناس عليها خلال عشرات السنوات الماضية، وهذا يتطلب كذلك توفير الإمكانيات من مختبرات ومشاغل وكوادر بشرية، ويتطلب زيادة الوعي عند الناس لتغيير نظرتهم إلى التعليم المهني والتقني وكأنه درجة ثانية بعد التعليم الجامعي، ويتطلب الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص الذي لا يتقدم كما يتم في المجتمعات الأخرى بدون الاعتماد على مخرجات هذا التعليم، والذي بدونه لا يمكن التعامل وبشكل جدي مع قضية البطالة في بلادنا.
وفي مناطق تزخر بمجالات الإبداع والابتكار، وفي دول متقدمة تكنولوجياً واقتصادياً وصناعياً ولا تعاني من البطالة وتداعياتها، يقبل غالبية الطلبة على التعليم المهني والتقني، وبدون حساسية او الشعور بأنه تعليم من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتستثمر هذه الدول والقطاع الخاص فيه، وتتسابق الصناعة والشركات على خريجيه، ويجد الخريجون فرص عمل، ولا تبلغ نسب البطالة عند الخريجين تلك النسب التي تنطبق على خريجي الجامعات في بلادنا.
تلك النسب وفي ظل الظروف الحالية والواقع الحالي ستستمر حتى يتم إيجاد استراتيجية وطنية، يمكن تطبيقها عملياً من خلال الحوافز والتوعية، للإقبال أكثر وللاستثمار أكثر وبشكل مستدام في التعليم المهني والتقني، سواء أكان ذلك من خلال آلية إنشاء جامعة أو جامعات أو كليات أو مراكز للتعليم والتدريب المهني، أو من خلال آليات دعم الاستثمار في قطاعات تحتاج إلى هذا النوع من التعليم، وبالتالي إيجاد فرص العمل التي يحتاجها من يخطط للإقبال على التعليم المهني، وفي نفس الوقت الابتعاد عن تخصصات ومواضيع في التعليم العالي أصبحت مملة ومكلفة وبعيدة عن واقعنا وعن وأولوياتنا.