وكالات - جمال زحالقة - النجاح الإخباري - أثارت مسيرة الأعلام التي قام بها المحتفلون الإسرائيليون بما يسمّى يوم «تحرير القدس»، وفق التقويم العبري، ردود فعل غاضبة في صفوف الشعب الفلسطيني، ما أدّى إلى المزيد من الغضب هي أنّها القدس، عاصمة فلسطين وقلبها النابض، التي استهدفها محتلون يتلذّذون في استفزاز المقدسيين، عبر التلويح بالأعلام الإسرائيلية المعادية، للتأكيد على «السيادة»، وعبر رفع شعارات وترديد هتافات تتمنّى الموت للعرب وتتشّفى بشيرين أبو عاقلة وتتوعّد بهدم الأقصى وبناء الهيكل.
ومن أجل تمرير هذه المسيرة الفاشية قامت قوات الأمن الإسرائيلية باحتلال مدينة القدس من جديد، وفرضت إغلاقا تامّا وطوقا على مسارها، ومنعت أي فلسطيني أو فلسطينية من الاقتراب منه، ما «حرم» المتظاهرين من إمكانية الاعتداء بالضرب، فقاموا بتفريغ عنفهم على الصحافيين العرب، ولم يسلم من أيديهم حتّى المراسل العربي للتلفزيون الإسرائيلي، وقاموا كذلك بالخروج من منطقة الطوق الأمني لاهثين باحثين عن أي فلسطيني لرشّه بغاز الفلفل ولضربه بالهراوات واقتحموا الأحياء العربية للعربدة وتحطيم الممتلكات.
قامت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة بحملة دبلوماسية ودعائية غير مسبوقة لطمأنة من سأل ومن لم يسأل بأن مسيرة الأعلام هي تقليد سنوي منذ عشرات السنين، وأن لا جديد في المسيرة، وعليه لن تقوم الحكومة الإسرائيلية بإلغائها أو بتغيير مسارها، ولكنّها (كرما منها) لن تسمح لها بالعبور في باحات المسجد الأقصى. لقد تجاوب سريعو الاطمئنان في العالم وفي العالم العربي واقتنعوا بسهولة لا تحتمل بما روّجت له حكومة الاحتلال، واكتفى آخرون بالتهديد في المساحة التي حدّدتها بالقول بأنّ «مرور المسيرة في المسجد الأقصى هو خطّ أحمر». وإذ يظهر الدبلوماسيون الإسرائيليون بالمظهر الحضاري «الراقي»، ويتحدثون لقيادات التطبيع العربي، بلغة إنكليزية سليمة أو بلغة عربية مكسّرة، عن الأمن والسلام والاستقرار والحفاظ على حقوق الإنسان، وعدم المس بالمقدسات واحترام القانون، وغير ذلك مما تعلّموا صياغته في دورات إتقان الكذب، التي هي شرط التقدم الوظائف، فهل من الكثير أن نطلب من العرب أن يكلّفوا خاطرهم وينظروا إلى أسفل ليروا كيف يدوس هؤلاء ومن معهم على القدس وأهلها ومقدساتها. لقد شدّت مسيرة الأعلام الانتباه إلى ما يحدث في القدس، ولكن حتى من دون أي أخبار دراماتيكية جديدة، تبقى الحالة في القدس مأساوية، وأخطر ما فيها هو التهويد الزاحف، الذي يتمثّل في بناء المستوطنات حولها وداخلها، وفي تغيير برامج التعليم وفي الاعتداءات المتكررة على المقدسات وفي تطبيق مشاريع التغيير الديمغرافي، وفي محاولات وضع كل شبر وكل بيت في المدينة في امتحان الملكية، وفق المعايير الإسرائيلية الغائية. والأدهى من ذلك هو أن إسرائيل ترى الواقع في القدس واقعين، واحدا على الأرض والآخر في الكمون. الأول نراه ونشهده، والثاني هو الهدف الإسرائيلي المأمول والمنشود، وهو هيمنة كاملة على المدينة وخفض نسبة الفلسطينيين فيها إلى أقل من 25%، وضمان «حرية العبادة» لليهود في المسجد الأقصى، وتوفير إمكانيات فعلية لأي يهود للسكن في أي حي وأي منطقة في القدس، وجعل المدينة بكاملها وبكل أحيائها ومناطقها مركزا عالميا لليهودية.
على كل من يردد شعارات الحرص على القدس أن يبدأ بتهيئة الظروف لتشكيل قيادة وطنية موحدة وشاملة لمواجهة الاحتلال ومشاريع الاحتلال القائمة والمقبلة
المثير للقلق وعدم الاطمئنان هو أن هذه ليست تمنيات وأحلام وأهداف هلامية، بل برامج حكومية رسمية يجري العمل المباشر وفقها والسعي لتوفير الظروف المحيطة لتسهيل الوصول إليها. وضمن هذه المساعي، اقترح الباحث في الشؤون الاستراتيجية أودي ديكيل، التوصّل إلى «اعتراف متبادل يهودي إسلامي بالرابط التاريخي والديني للطرفين بالقدس وبجبل الهيكل، ما سيساهم في تهدئة الأجواء العاصفة. ومن أجل ذلك يجب التوصل إلى تفاهمات بين قيادات دينية يهودية وإسلامية، مع دمج قيادات دينية من دول السلام والتطبيع في المنطقة». والمحيّر بالنسبة لمثل هذا الكلام بأنّه يأتي من رئيس طاقم المفاوضات السابق، وهو في مركز السياسة والأمن في إسرائيل، وهو واسع الاطلاع بكل ما يخص علاقات إسرائيل السرية بالعالم العربي، فهل هناك أطراف عربية مستعدة أن تدفع الثمن لإسرائيل حتى تضع لنفسها موطئ قدم في القدس؟ ما حدث قبل وخلال وبعد مسيرة الأعلام كان في منتهى الخطورة. ففي الصباح اقتحم الآلاف المسجد الأقصى وتبين لكل من له عين وأذن بأن عملية تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى تتسارع بشكل مذهل: أولا، أعداد المقتحمين وصلت الآلاف في يوم واحد، بعد أن كانت بالعشرات، وثانيا، جرى توسيع المساحة التي يتحرك فيها المقتحمون في باحات المسجد، وثالثا، أداء الصلوات والابتهالات أصبحت أمرا معتادا، وبعد أن كانت الشرطة في الماضي تمنع المقتحمين عن أدائها، صارت تغض الطرف عن الترتيل والسجود وقراءة النصوص الدينية اليهودية في رحاب المسجد الأقصى المبارك، ورابعا، قام المقتحمون برفع الأعلام الإسرائيلية في محاولة للتأكيد على ادعاء السيادة الإسرائيلية في المسجد الأقصى أيضا، وخامسا، زادت التقييدات المفروضة على المسلمين الموجودين في المسجد خلال تجوال المستوطنين في باحاته. كل هذا وغيره ويردد من يردد من العرب والمسلمين بأن «لن نسمح بفرض تغييرات في الأوضاع القائمة في المسجد الأقصى». كيف يقولون لن نسمح وهم يسمحون ولا يفعلون شيئا لإنقاذ القدس والأقصى من أيدي الطغاة المحتلين. ويجب الانتباه من الآن أن المشاركين في الاقتحامات لا يكتفون بالآلاف الذين دخلوا باحات المسجد عنوة، وهم يطالبون بأن تمر مسيرة الأعلام برمتها في الحرم القدسي الشريف. وإن لم يجدوا من يصدّهم سيفعلونها. وصدّهم يتطلب موقفا فلسطينيا وعربيا قويا وحازما، بالقول والفعل.
بعد كل الذي يحدث في القدس لا يعقل سريان مفعول الانقسام الفلسطيني حتى في عاصمة فلسطين. ومع أن غالبية المقدسيين، الذي يدافعون عن مدينتهم وعن مقدساتها، لا ينتمون لأي فصيل، فإن العمل المشترك بين الفصائل يمكن أن يغيّر قواعد اللعبة، ويجعل أي محاولة لتنفيذ أي من مشاريع التهويد الإسرائيلية إلى مواجهة وصدام مع الاحتلال، ناهيك من القدس هي مصدر إشعاع نضالي على كل فلسطين. القدس في الحقيقة لا تنتظر المصالحة، فالمخاطر المحدقة فيها لا تتحمّل التأجيل، وإمكانيات كسر شوكة الاحتلال قائمة وثبتت بالتجربة في أكثر من مناسبة. وإذا كانت هناك خلافات حول السلطة ومراكز القوّة في رام الله وغزّة، فإن القدس واقعة تحت الاحتلال المباشرة ولا سلطة فيها ولا مغانم سلطة، وطبيعة المعركة فيها ليست محل خلاف فصائلي. وعليه فإن كل من يردد شعارات الحرص على القدس أن يبدأ بتهيئة الظروف لتشكيل قيادة وطنية موحدة وشاملة لمواجهة الاحتلال ومشاريع الاحتلال القائمة والمقبلة.
رايات الاستفزاز
أما بالنسبة للأعلام ذاتها فإن إسرائيل تعرف جيّدا أن أعلامها تستفز الفلسطينيين، ولذا هي تصر على أن ترفعها نكاية في وجههم وفي كل موقع متاح لها. وأذكر أنه عندما كنّا طلّابا في المدرسة، فرضت وزارة المعارف الإسرائيلية رفع الإعلام فوق بناية المدرسة وفي ساحتها احتفالا بما يسمى «يوم الاستقلال»، فقمنا مجموعة من الطلاب في بلدنا بالتسلل إلى المدرسة ليلا وأزلنا جميع الإعلام، وقام الشباب بإتلافها وتمزيقها وإحراقها، وهناك من لطّخها بالقاذورات. وفي اليوم التالي جاءت الشرطة وشرعت بالتحقيق وبعد حوالي شهر اعتقلتنا وقضينا في الاعتقال مدة أسبوعين وقدمنا بعدها للمحاكمة بتهمة تلطيخ العلم وبتهم أخرى. أذكر وقتها أن كل من اقترحنا عليه الانضمام إلى عملية «تلطيخ العلم» وافق فورا، فالكل كان مستفزّا بالدرجة نفسها. والحقيقة أن الأعلام الإسرائيلية لها مفعول عكسي على الفلسطينيين، فهي رسالة عداء مباشرة، تحفّز على رد الفعل دفاعا عن النفس في وجه ما يمثله العلم الإسرائيلي من سلب للأرض والحقوق الإنسانية، ومن نفي تام لشعب فلسطين، وهو شعب لا يقبل بالنفي وبالمنفى مهما طال الزمن ومهما تعقّدت الظروف.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48