وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - بعد 55 سنة احتلال قال المستعمرون الإسرائيليون إنهم فرضوا عبر مسيرة الأعلام سيادتهم على مدينة القدس باعتبارها عاصمة موحدة لدولتهم. لا أحد يتشكك في القدرة العسكرية الإسرائيلية الهائلة، ولا في ترسانة السلاح المحدث سنوياً، ولا في مهارات القمع والتنكيل والسيطرة بتوقيع إسرائيل. لكن مسيرة الأعلام واقتحامات المسجد الأقصى في ذكرى احتلال القدس، قدمت للعالم دولة «السوبر باور» كدولة مهزوزة أمام شعب أعزل. تحولت مدينة القدس إلى ثكنة عسكرية، واحتاج كل مستوطن مشارك في المسيرة إلى أكثر من رجل أمن لحمايته، فكان رجال الأمن والعسكر الذين تواجدوا في البلدة القديمة لقمع الاحتجاجات الفلسطينية وحماية المستوطنين يفوق عدد الجنود الذين احتلوا المدينة قبل 55 عاماً.
بالأمس كانت معركة بين علمين، علم الاستعمار الإسرائيلي المقحم في المكان محمياً بترسانة أمنية، وعلم فلسطين الذي رفرف في سماء وساحات وطرقات القدس محمياً بأفئدة كل الفلسطينيين التواقين للحرية. مرة أخرى فاز العلم الفلسطيني في القدس، وخسر المستعمرون.
رد المقدسيون على استباحة مدينتهم بشكل طبيعي منسجم مع خصائص السكان الأصليين التواقين للحرية والواثقين بعدالة قضيتهم، فكان دفاعهم مشروعاً، وقد تحملوا الإصابات والاعتقال والإبعاد والتهديد والوعيد والخسارة المادية الكبيرة. مقابل ذلك كان الفعل الإسرائيلي عدوانياً استفزازياً وذلك عندما قام المستوطنون باقتحام الحيز العام الفلسطيني والسيطرة عليه بالقوة وتحويله الى حيز عام للمستوطنين. حدث ذلك في ساحات الأقصى وفي باب العامود والبلدة القديمة، والأخطر كان الوجه الرئيسي للمسيرة هو ما عبر عنه المستوطنون المتطرفون، بشعارات عنصرية ليس اقلها «الموت للعرب» وكَيْل الشتائم للرموز الدينية والتهديد بهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، والتهديد بطرد السكان الأصليين. شتان بين المدافعين عن الحرية وبين المدافعين عن الاستعمار والعنصرية والنهب. بالأمس كانت معركة بين جمهورين. جمهور المسيرة الإسرائيلية الذي انتجته البنية الاستعمارية الاستيطانية والذي يضم لفيفاً من عناصر شبيبة متطرفة لا تملك غير لغة الإقصاء والترهيب والكراهية، كثير من هؤلاء ينتمون لـ 63 منظمة وحركة وجماعة متطرفة جرى شرعنتها من قبل الدولة «الديمقراطية» وتحظى برعاية مؤسساتها، وجمهور مقدسي يدافع عن حقه في البقاء وفي الخلاص من الاحتلال.
بالأمس تعزز الإحساس بأن الصمود والدفاع عن الحقوق ومنع الترانسفير والخلاص من نظام الأبارتهايد الاستعماري يعتمد أساسا على الشعب الفلسطيني، ولاحقاً على حلفاء حقيقيين من شعوب شقيقة وصديقة ونخب تلتزم مبادئ تحررية. وتعزز الإحساس بأن المعركة طويلة ونتيجتها تعتمد على مراكمة نقاط وعناصر الصمود والمواجهة اليومية، هذه حقيقة تبدت اكثر من أي وقت مضى في هبة القدس والمواجهات الصغيرة والكبيرة في مواقع التماس مع المحتلين. إن دروس الهبات والمواجهات السابقة تستدعي إعادة النظر في ثلاثة عناوين. العنوان الأول بنية المؤسسة الرسمية -منظمة وسلطة - المنفصلة الى حد كبير عن الناس وحاجاتهم وعن متطلبات الرد الفلسطيني على الاستباحة الإسرائيلية اليومية. كما نرى فإن البنية تتغير نحو الأسوأ ويتفاقم التناقض بين الحاجة الى مؤسسة بديناميات عملية، وواقع المؤسسة وآلية اتخاذ القرار اللذين يهدران إمكانية تطوير الجهود، ما يستدعي أشكالاً من التدخل والبناء المستقل. العنوان الثاني: إعادة النظر في العسكرة المُمأسَسة واستراتيجية المواجهة غير المتكافئة انطلاقاً من قطاع غزة. العسكرة المنفصلة عن النضال الجماهيري الموقعي، والمقيّدة بحسابات إقليمية خطيرة. ثمة حاجة ليكون قطاع غزة ومناطق الـ 48 والضفة والقدس أجزاء مكونة للقرار والبرنامج الوطني واستراتيجية النضال، فكيف السبيل الى ذلك؟ العنوان الثالث: انفصال النظام العربي ومنظمة التعاون الإسلامي عن التحرر الفلسطيني بالأفعال، واستمرار الدعم بالأقوال والبيانات التي فقدت كل معنى لها بعد التوقيع على اتفاقات التطبيع العربية مع دولة الاحتلال المتناقضة تماماً جملةً وتفصيلاً مع مبادرة السلام العربية، والمعتمدة من منظمة التعاون الإسلامي وقرارات القمم العربية والإسلامية. ولا يغير من هذه الحقيقة المرة الحفاظ على الشعارات القديمة وتردادها في المناسبات وبعد الاجتماعات.
مطلوب إزالة اللبس والغموض والتضليل من العناوين الثلاثة. لتسهيل إعادة بناء أجسام الصمود في إطار معادلة شعب واحتلال القائمة حالياً. وإذا كان العنوان الأول البيروقراطية والثاني العسكرة مطروحين في التداول والسجال اليومي، فإن العنوان العربي الإسلامي بات في عداد المسكوت عنه. ولا مناص من المكاشفة الصريحة التي لا تعني فتح معركة مع الدول العربية والإسلامية، فالذي يحاسب ويحدد المواقف هو شعوب تلك البلدان وحدها، تماما كما هو الحال مع الشعب الفلسطيني الذي وحده المخول بمساءلة ومحاسبة نظامه السياسي. ما يهم إحداث انسجام بين الخطاب العربي والإسلامي الرسمي الذي ينتمي للقديم وبين السياسات المعمول بها، وهي تطبيع وتحالف مع دولة الاحتلال وتهميش القضية الفلسطينية وتركها تترنح في مركز الاستهداف الاستعماري الإسرائيلي.
لقد تأسست منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 56 دولة عربية وإسلامية بعد حرق المسجد الأقصى عام 1969، وحتى العام 2019 عقدت 19 قمة وكانت قراراتها داعمة للحقوق الفلسطينية المشروعة المعروفة دولياً والمسنودة بقرارات مجلس امن وجمعية عامة ولجان منبثقة عنهما. وفي العام 1975 تأسست لجنة القدس بعضوية 16 بلداً وبرئاسة الملك المغربي الحسن الثاني، وفي العام 1998 تأسست وكالة بيت مال القدس. ويمكن القول إن أهداف وبرامج ومواقف تلك المؤسسات تستجيب لحاجة القدس وفلسطين إلى الدعم المعنوي والسياسي، مع وجود بون شاسع بين الدعم الاقتصادي الفعلي وحاجة المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، وبخاصة إذا ما جرت المقارنة بين دعم المؤسسات والمليارديرات «اليهود» لتهويد مدينة القدس والبناء الاستيطاني داخلها من جهة، والدعم العربي والإسلامي لصمود القدس من جهة أخرى. رغم ذلك كان الموقف السياسي العربي الإسلامي هو الأخطر. ففي الوقت الذي يجري التحويل والتطهير العرقي في المدينة وفي الوقت الذي تتأسس فيه بنية التحويل والتطهير الاستعمارية عبر 63 منظمة دينية وقومية متطرفة وعنصرية فضلاً عن الأحزاب اليمينية القومية والدينية على المشهد السياسي الإسرائيلي، في الوقت الذي كان يجري تبريد دور لجنة القدس ووكالة بيت مال القدس، وصولاً الى إبرام اتفاقات تحالف وتعاون مع دولة الاحتلال وسط صمت الهيئات التي لم تحرك ساكناً. بقيت المسميات والمواقف القديمة على حالها وكأن شيئاً لم يكن. مطلوب إزالة هذا الغموض ووضع النقاط على الحروف، فلا معنى لاستمرار لجنة القدس ولا بيت مال القدس بلا أنشطة، ولا معنى لبقاء منظمة التعاون الإسلامي بلا عمل أو أهداف يمكن تطبيقها. إن التعريف بهذه التجربة والكشف عن كل إيجاب وكل دعم سابق شيء مهم، كما أن الكشف عن الجانب السلبي والإخفاق والتراجع والتغيير في المواقف العملية يعتبر واجباً لكل المعنيين بالصراع بين شعب ينشد حريته واحتلال يفرض هيمنته.