وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - للأقدار حكمتها التي لا تأبه بالبشر، بل تسخر منهم أحياناً حين يعاندون حد الإدماء. وشاء قدر فلسطين أن تكون معملاً حياً لتجارب الصراع منذ أن تحولت القدس إلى العاصمة الروحية للإنسانية فتحولت أيضاً إلى المدينة الدامية التي لم تعش بطالة الحروب، ففي القدس تغول التاريخ على الجغرافيا جاعلا من الدم زيت قاطرتها الدائم.
الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتكثف بكامل إرادته في تلك البقعة الصغيرة، يحاول الإسرائيلي بكل ما يملك من عتاد أن ينتصر، ويحاول الفلسطيني بما يملك من إرادة ألا ينهزم، وإذا كان الفلسطيني ينتصر بالتاريخ وينهزم بالجغرافيا تحت أنياب الدبابات فإن الإسرائيلي الذي ينتصر بالجغرافيا ينهزم بالتاريخ وحقائقه وما بين هذه المعادلة المعقدة.
وفي هذا التوازن العجيب تفتح القدس معاركها الدائمة التي تعيد صلب العالم متحفزاً على قدم وساق مما سيحدث هناك دوماً لأن القدس مركز للزلزال كما كانت دوما وآخرها قبل عام حين وصلت هزاته الارتدادية إلى كل العواصم.
الخوف من تكرار سيناريو أيار الماضي هو الذي يصنع كل هذه الحركة السياسية سراً وعلناً، لا أحد في العالم يريد حرباً في المنطقة لا الولايات المتحدة التي لم يعد يعنيها هذا الصراع وسط صخب الأحداث الدولية الممتدة من بكين مروراً بكييف، ولا أوروبا المشغولة بأولوياتها التي دهمتها أواخر شباط الماضي ونذر أزمة الغذاء والغاز والاقتصاد، ولا المحيط العربي الذي تتعرض طبقته الرسمية لضغوط شعبية أمام مشاهد القتل، ولا إسرائيل التي تدرك بعد حرب العام الماضي وقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة أن الرأي العام لن يكون متسامحاً معها وهي لم تخرج بعد من أزمة قتل مراسلة الجزيرة، ولا حتى حركة حماس التي تعرف أن إعادة الإعمار أكثر تكلفة من الحرب نفسها.
لكن القدس ولعبة تبادل الأدوار بين التاريخ والجغرافيا وأقدارها أكبر من الإرادات مجتمعة ومما يريد الجميع، بدءا من واشنطن مروراً برام الله وغزة وتل أبيب وما بينهما من عواصم، ها هي مرة أخرى تعلق الفلسطينيين والإسرائيليين على صليب لحظتها وخشبتها، الإسرائيلي الذي بات عالقاً بين رغبته وشهيته المفتوحة دوماً للسيطرة والاستيلاء وتلك باتت مكلفة وحكومة بات تراجعها لا يقل كلفة في الداخل الإسرائيلي وبات معلقاً أمام خيارين لن ينجو من ثمن أي منهما، والفلسطيني الذي يدفعه الإسرائيلي نحو خيارات لا تقل استعصاء ولكنه لم يكن صاحبها، بين خيار القبول والصمت على النهم الإسرائيلي والذي بات يشكل مساساً بروحه باعتبار القدس مصدر قلبه النابض وما بين خيار الذهاب نحو مواجهة مكلفة .... تلك هي القدس التي طحنت كل من استولى عليها عبر التاريخ.
إسرائيل ما بين الضغط الدولي المباشر برسائل تطلب منها ألا تفجر المنطقة وهي تدرك أن المنطقة يمكن أن تذهب لتلك المساحة.
وقد أجرت الأسبوع الماضي تدريباً كبيراً سمته «عربات النار» ليس لضمان الأداء مع حرب مع الفلسطينيين بل على كل الجبهات وهو السيناريو الذي شكل هاجسها في الأعوام الأخيرة، ونصبت بطاريات القبة الحديدية من الشمال حتى الجنوب وفي القدس، وأيضا الضغط غير المباشر الذي ترصده بتنامي الوعي العالمي الشعبي بطبيعة الصراع وازدياد التعاطف الدولي وأبرزه في الولايات الأميركية وما بين الضغط الداخلي لرئيس حكومة يرتدي القبعة الدينية وممثل الحركة الاستيطانية القومية وتترصد له معارضة شرسة تحاكم مدى التزامه بيمينيته.
الحكومة الإسرائيلية خليط من اليمين واليسار تقف على حافة الهاوية تبلغ ذروة ضعفها بوقوفها على حاجبي امرأتين يحددان مصيرها واحدة في أقصى اليمين أيليت شاكيد وزيرة الداخلية والأخرى في أقصى اليسار غيداء زعبي.
ولأن الحكومة تقف على صوت واحد فإن تراجع قليلاً ستخرج شاكيد، وإن ذهب يميناً كانت زعبي في رسالتها تقول إن موضوع القدس حاضر.
وأمام كل ذلك تحاول حكومة إسرائيل وسط هذا الخليط من التعقيدات التي وضعت نفسها والمنطقة برمتها فيها أن تجد مخرجاً، أن تجد حلاً لمعادلة التهويد والتقسيم الزماني وإطلاق المستوطنين وضمان عدم نشوب حرب، تلك باتت معادلة مستحيلة وسط تهديدات الفصائل وإرادة شعب أجرى تمرين الاستنفار والكفاءة باغتيال شيرين أبو عاقلة عندما تحرك أربعة عشر مليون فلسطيني من نيوجيرسي حتى الناصرة وفي كل مدن تواجد الفلسطيني.
وإذا كانت إسرائيل في مأزق فقد بات الفلسطيني في مأزق لا يقل عنه، ليس فقط السلطة الرسمية التي يتراجع تأثيرها بل إن وضع الفصائل في قطاع غزة لا يقل تأزماً.
فقد فتحت العام الماضي حرباً بسبب مسيرة الأعلام وأعلنت أن الحرب قامت بسببها وبالمناسبة كانت حرب العام الماضي الوحيدة التي بادرت لها حركة حماس دون باقي الحروب، وهي بذلك تضع سقفاً بات التراجع عنه يضعها ومعها باقي الفصائل أمام اختيار صعب لمصداقيتها من أصعب الاختيارات إن صمتت، وبالمقابل إن فتحت حرباً للحفاظ على مصداقيتها فذلك لا يقل كلفة.
أزمة حماس والفصائل هي جزء من أزمة المشروع الوطني الذي باتت كل خياراته أمام ثنائيات معقدة وتبدو خاسرة أحياناً. تتجسد هذه الأزمة في السلطة في الضفة وأحياناً في السلطة في غزة لكن الأمر ناتج عن أزمة أكبر وهي أزمة خيارات باتت تقف أمام استعصاءات ليست سهلة.
الأجهزة الأمنية الإسرائيلية رفعت توصيتها للحكومة بعدم التراجع عن المسيرة أو تغيير مسارها حتى لا يفسر الموقف بالضعف، وبالمقابل الفصائل المسلحة في غزة أيضا لا تستطيع التراجع حتى لا يفسر الموقف بالضعف، تلك هي المعادلة التي تفسر اللحظة والبحث عن سلم للنزول واضح أن الإسرائيلي يستصعب التحرك عليه ليضع الجميع في مأزق لن تحله قطع الحلوى التي تحملها زيارة الرئيس الأميركي، الأمر أكثر تعقيدا، هناك دعوات ووساطات تتمنى الهدوء، لكن على الأرض اسرائيل تتدرب وتنصب بطاريات القبة، والفصائل في غزة تذخر سلاحها. وما بين التمني والواقع ما هو بحاجة إلى حل سحري ...!!!!