وكالات - رجب أبوسرية - النجاح الإخباري - لا ينسى نفتالي بينيت ولو للحظة، بأنه كان قد وصل أول مرة لمقعد الكنيست بأصوات المستوطنين، وأنه دخل الساحة السياسية الإسرائيلية من أوسع أبوابها وصولاً الى مقعد رئيس الحكومة بفضل تطرفه وانضمامه الى صفوف المستوطنين، معبراً عنهم وحاملاً رايتهم الاحتلالية، ويتذكر بينيت ما كان يقوله ويفعله قبل أن يدخل الكنيست، وبشكل خاص هذه الأيام، أي منذ أن فقد الائتلاف الحاكم أغلبيته البرلمانية، وبات مهدداً بالسقوط في أي لحظة، ومن الواضح بأن بينيت شأنه شأن كل قادة الأحزاب الإسرائيلية باتوا يفكرون في لحظة ما بعد التصويت الذي سينجح في إسقاط الحكومة، حيث أن بينيت بالذات وبحكم علاقته الوثيقة بالمستوطنين يرجح أن يكون منافسه وحتى خليفته في مقعد رئيس الحكومة هو إيتمار بن غفير وليس بنيامين نتنياهو أو غيره، لذا فإنه ينافس بن غفير على اقناع المستوطنين بالذات على أنه هو الأحق بأصواتهم ومساندتهم في الانتخابات القادمة.
منذ ما بعد العام 1967، ومبادرات السلام تقوم على أساس مبدأ «الأرض مقابل السلام»، فيما حاولت حكومات اليمين الإسرائيلي منذ أيام مناحيم بيغن الذي وصل للحكم عام 1977 لأول مرة، ظلت تحاول أن تخرج القدس من العملية السياسية وأن تجر اليسار الى قبول موقفها القائل بأن القدس يجب أن تبقى موحدة، أي الإقرار بالقرار الاحتلالي المناوئ للشرعية الدولية بضم القدس المحتلة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهكذا ظل هذا الموقف عقبة في طريق الحل، وخير دليل على ذلك هو أن مفاوضات كامب ديفيد بين الرئيس ياسر عرفات وايهود باراك برعاية الرئيس بيل كلينتون، عام 2000 حاولت اجتياز هذه العقبة بالبحث في تفاصيل التفاصيل المتعقلة بالتخطيط البيني للمدينة، وكل ما كان الإسرائيليون يطرحونه هو «حقهم» في الصلاة أمام حائط البراق، ولم يتحدثوا يوماً، لا عن هيكل ولا عن حرم إبراهيمي، أما الآن فإن المستوطن الذي حاز على منصب رئيس الحكومة، ونقصد بهذا نفتالي بينيت بالطبع، فإنه يسعى لأن يحقق إجماعاً داخلياً إسرائيلياً على الاستيطان!
لكن الاستيطان غير شرعي وفق القانون الدولي، كما أنه عقبة في طريق السلام، حسب المجتمع الدولي بما فيه الولايات المتحدة، وهو يقوض حل الدولتين، وماذا في ذلك يقول بينيت بينه وبين نفسه، أليست القدس الشرقية أرضاً محتلة، وضمها من قبل إسرائيل كان بناء على قرار مناوئ للقانون الدولي، أوَليس ضمها وعدم انسحاب إسرائيل منها يمنع الحل مع الجانب الفلسطيني، ثم من قال بأن إسرائيل تريد أو تسعى لحل أو حتى سلام مع الفلسطينيين؟ إسرائيل تريد وتسعى الى استسلام تام وكامل من قبل الفلسطينيين لإرادتها وسياستها واحتلالها، ولا تسعى أو تريد شيئاً آخر.
لكن إسرائيل سبق لها وانسحبت من مستوطنات سيناء ومستوطنات قطاع غزة، وأريئيل شارون الذي كان على يمين مناحيم بيغين واسحق شامير، وكان يرى أنه يتفوق عليهما بخبرته العسكرية وطبيعته العنيفة وبما ارتبط به من مجازر بحق الفلسطينيين، ومنها صبرا وشاتيلا التي جرت بترتيب شخصي منه مع الكتائب اللبنانية ايام بشير الجميل وايلي حبيقة، وشارون نفسه هو الذي أعطى أمر الانسحاب من جانب واحد من كل قطاع غزة بما فيه مستوطنات غوش قطيف، ميراج ونيتساريم، لكن ليس كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية على شاكلة واحدة، فكل واحد منهم يريد أن يتفوق على سابقيه بمزيد من التطرف والتطاول على حياة وحقوق الفلسطينيين.
ولا يكتفي رئيس حكومة إسرائيل وهو بالمنصب وبصفته الرسمية، بالتحريض على القتل المباشر للفلسطينيين بمن فيهم الصحافية شيرين أبو عاقلة، بل ها هو ينضم بشخصه للمستوطنين في اعتدائهم على الأرض الفلسطينية ويمارس بنفسه الخروج على القانون الدولي الذي يعتبر الاستيطان غير شرعي، وهذا السلوك بالقطع لا يشجع فقط المستوطنين على فعل كل ما لا يخطر ببال من عنف وارهاب وحسب، بل يدفعهم الى ممارسته على الفور، وأن يمارس بينيت العنف ربما بدافع التعويض النفسي عن كونه رئيس حكومة بدون خلفية أمنية، أكثر مما كان سلفه بينامين نتنياهو.
والحقيقة أن هناك قوة تطرف أو مجموعة عنف جديدة قد بدأت بالظهور في ميدان الاحتلال الإسرائيلي وهي مجموعات التطرف الديني، ومنها جماعة الهيكل، وجماعة لاهافا، التي وكما توقعنا في مقالات سابقة بأن الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى وصولا الى محاولة ذبح القرابين في الحرم، ما هي إلا مقدمة لمحاولة هدم المسجد بنيّة بناء الهيكل المزعوم فيه، ها هي تدعو علناً وبكل صفاقة الى هدم أولى قبلتَي المسلمين وثالث الحرمين في تطاول على الحق الديني لنحو مليار ونصف مليار مسلم في العالم.
كل ذلك يجري علناً وتحت سمع ونظر العالم بما فيه واشنطن، التي تقيم الدنيا على شن روسيا لعمليتها العسكرية على أوكرانيا، ولا تقعدها بتنفيذ كل ما يمكنها فعله من حرب اقتصادية، يكفي هنا أن تهدد ببعضها ضد الدولة المارقة في الشرق الأوسط حتى تضع حداً لاحتمال اشتعال حرب دينية طاحنة، قد تصل مداها الى داخل الولايات المتحدة نفسها.
والأنكى أن العواصم العربية والإسلامية لا تحرك ساكناً، فلا ترد عواصم التطبيع مثلاً بالتهديد، ولو بالكلام بقطع علاقتها فور أن تقدم لاهافا أو غيرها على فعل تلك الجريمة، أو أن توقف قطار المحبة المسمى بالتطبيع مع دولة إسرائيل المارقة والخارجة على القانون الدولي، أو أن ترد بالإعلان عن قطع الاتصال مع رئيس حكومتها المستوطن، الخارج عن القانون الدولي والمحرض على ممارسة العنف والإرهاب.
لكن للبيت شعباً يحميه، وكما كان الشعب الفلسطيني طوال العقود الخمسة الماضية شجاعاً ومثابراً في كفاحه ضد الاحتلال، سيظل هكذا الى أن تؤدي المواجهة الطاحنة المرتقبة الى هز عروش التطبيع في المحيط العربي، والى إحياء الموات في العالم الإسلامي، والى إحياء الضمير العالمي مجدداً، وحيث أن أبواب أو آفاق السلام قد أغلقت تماما، فإن الأرض تغلي في عموم الأرض الفلسطينية وبالذات في القدس والضفة الغربية، فها هي تقديرات الجيش الإسرائيلي نفسه تشير الى أن التوتر سيظل قائماً مدة عام على الأقل، وذلك لأنه على علم ببوصلة الحكومة الحالية التي يجلس خلف مقودها الخارج على القانون الدولي المستوطن بينيت. أي أن إسرائيل لم تدخر وسعاً خلال احتلالها من أجل إطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، والتي ستكون بشرارة تنطلق من القدس، وتشتعل في حقل الاستيطان الملتهب، لعل ذلك يكون سبباً في تغيير لا بد منه داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية التي هي غير قابلة بوضعها الحالي لأي حل ممكن، تماماً كما فعلت الانتفاضة الأولى عام 1987، وكانت سبباً في قطع حبل تواصل حكومات اليمين التي امتدت قبل ذلك لعقد ونصف، ودفعت بشريك لعملية السلام على الجانب الإسرائيلي.