وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - تباعاً، بات القلم يستيقظ على فاجعة الفقد في هذا الوطن للأسماء والرموز التي جسدت لحظة مهمة في هذا التاريخ الدامي والطويل. ففي الفترة الأخيرة، باتت الكتابة رثاء وباتت صفحة الجريدة تطفح بالمراثي، صحيح أن تلك سمة الحياة وحكاية الفلسطيني الذي لا يتوقف عن الفقد في سياق مشروعه، لكن الأساطير الوطنية التي فقدناها في الأسابيع الأخيرة تشي بخسارات مؤلمة.
فقدنا هاني حبيب وعبد الهادي أبو خوصة، وشيرين أبو عاقلة. وفي ذروة الحدث الوطني بالرحلة التي أمضتها شيرين جسداً مسجى لثلاثة أيام بين السماء والأرض كانت تخوض معاركها مع المحتل وتنتصر في كل تلك المعارك، كانت شيرين تقودنا وتجسد صراع الإرادة على هذه الأرض. وفي ذروة غبار المعارك كانت فلسطين تعلن نبأ فقدان المفكر الوطني الكبير فيصل حوراني الذي لم يتوقف عن الكتابة حتى حين قاربت النهايات.
من لا يعرف عبد الهادي أبو خوصة؟ وهو الذي شيعته غزة قبل أسبوع بجنازة كانت تليق بالراحل الكبير وتاريخه، وهو الذي بدأ في خمسينيات القرن الماضي قائداً ومناضلاً وأسيراً ومفاوضاً عندما تم اختياره في وفد مدريد رافضاً هو وزملاؤه على رأسهم الدكتور حيدر عبد الشافي بدء أي مفاوضات قبل الحصول على تعهد إسرائيلي بوقف الاستيطان، وأن الرجل الذي طاف شوارع غزة الفقيرة ومخيماتها وحواريها يتفقد على امتداد أكثر من نصف قرن بسطاء شعبه حتى عرفه الكل بتواضعه الذي جعل من بيته قِبلة للجميع ومن شخصه محل إجماع وطني.
كان يروي ذكرياته بنكران شديد للذات وعادة ما يصحح له الصديق فريح أبو مدين ليبرز دوره في كل المحطات التي كان فيها شجاعا، منذ البدايات في مصر حين تعرف على ياسر عرفات قبل أن يعرف أن هذا هو قائد حركة فتح، والذي صادمه في اللقاء الأول قبل أن تتحول العلاقة بينهما إلى رباط وطني. وحين عاد عرفات عرض عليه وزارة الداخلية التي اعتذر عنها بأدب. وحين سألته عن أسباب رفضه أجاب بتواضع الكبار «هل تتخيل أن أقود وزارة فيها قوات قد تعتدي يوماً على مواطن؟». وهو الرجل الشيوعي رفيق حيدر عبد الشافي حيث كان لديه من الضمير ما لا يحتمل أن يحمل للحظة وزر ظلم مواطن من شعبه، وهو الذي ظل حتى اللحظات الأخيرة يعمل يومياً في مكتبه في الإغاثة الطبية بلا راتب ولا مقابل ولا سيارة ولا شيء. كان يتحلى بأخلاق الأنبياء.
مسيرة عبد الهادي أبو خوصة بدأت في مصر لتنتقل إلى الميدان في غزة والضفة والداخل والسجون، واحداً من أركان الانتفاضة الأولى وعضو قيادتها الموحدة بكل مخاطرها ومفاوضاً في أول وفد تشكله المنظمة قبل أن يتراجع خطوة عندما عادت السلطة وبدأت مرحلة توزيع الغنائم، كان ابن وقائد المرحلة الصعبة والليالي الظلماء رافضا كل المغريات التي عرضت عليه مكتفياً بدور الأب الوطني وراعيا لحلم كان حزيناً أنه لم يتحقق.
يوم الخميس الماضي، كان القدر ينتقي رمزاً وطنياً آخر وواحداً من مفكري الحركة الوطنية الفلسطينية الكاتب الكبير فيصل حوراني، وهو الذي جسد على امتداد تجربته الثقافية الهائلة شكل تطور الفكر السياسي الفلسطيني الذي كان عموده الرئيسي منذ أن كلفه ياسر عرفات صياغة فكرة الوطنية الفلسطينية وبرنامجها التي مثلت ذروة نضوجها في خطاب الأمم المتحدة العام 74، لكن خماسية «دروب المنفى» التي كتبها الراحل في خمسة أجزاء وهي تمثل جزءا من إنتاجه الثقافي ربما كانت أفضل عمل ثقافي يروي تاريخ الفلسطيني منذ ثلاثينيات القرن الماضي وبروز الأحزاب الفلسطينية وبداية العمل السياسي الفلسطيني وصولاً لثمانينيات القرن التي خاض الفلسطينيون فيها أطول معاركهم وانتقلوا إلى ميدان سياسي من جديد.
هي سيرة ذاتية لكنها تكتب تاريخ شعب بلغة فيصل السهلة القوية والذكية، وكتابه «جذور الرفض الفلسطيني»، و»الفكر السياسي الفلسطيني» وروايات لا يمكن إحصاء إنتاج الراحل الغزير هنا، لكننا أمام شخصية استثنائية في الفكر والثقافة ربما لا يعرف الكثير من الفلسطينيين وخصوصاً الأجيال الجديدة قيمة وعظمة هذا القدر من الإنتاج الذي كان يرسي قواعد العمل السياسي والثقافي كأحد مؤسسي اتحاد الكتاب ومدير تحرير مجلة «شؤون فلسطينية».
أن ترى فيصل الذي يبتسم دوماً لا تعرف أنه يقف على كل هذا الإرث من الكتب لبساطته وعفويته وسخريته وعصبيته واندفاعه ونقاشه الحاد وكل شيء، كان شديد التناقض فقد تعرض لحادث أدى لكسر ظهره لكنه كان شديد الحيوية والنشاط سيراً على الأقدام، كان شديد الفوضى في حياته وسريع الغضب والسخرية لكنه كان شديد التركيز في الثقافة والفكرة وشكل صياغتها ونباهتها.
كان فيصل حاد المزاج، كان يغضب من ياسر عرفات وينزوي بعيداً ثم يعودان كرفيقي درب، كان مستشاراً لياسر عرفات يمزح قائلاً، «أنا مستشاره الذي لم يسمع منه»، عندما كانت تتعقد الأمور في وجه ياسر عرفات كان يستدعي فيصل الذي يعيش في النمسا على عجل ينفرد به لساعات، ولأن عرفات يعرف أن فيصل لا يخفي أسرارا يطلب منه أن يغادر غزة ويمضى رحلة في شرم الشيخ، كان فيصل يراوغ محاولاً البقاء فترة أطول. وكنا نلتقي في زياراته في بيت صديقنا الشاعر خالد جمعة الذي يعود له الفضل في تلك اللقاءات جاعلاً من بيته صالونا ثقافيا نجمه الأول فيصل حوراني، وكان فيصل يروي كل النوادر مع ياسر عرفات بما فيها الأسرار، وكيف كان عرفات يستغله للاستقواء على التصلب السياسي والفكري والديني لكوادر حركة فتح في بدايات التجربة عندما كان المهندس يريدها وسطية لتكون حركة كل الفلسطينيين.
كان يسمي لقاءاتنا بجلسات النميمة، وهو صاحب ذاكرة حادة ولا ينسى التفاصيل ولديه ذكريات غزيرة مع معظم السياسيين والمثقفين كانوا دوماً مادته للحديث، فقد كان محمود درويش يتجنب الوقوع تحت انتقادات فيصل حوراني، كان يمرر أفكاره بصورة ساخرة، بعد عودة السلطة قال لياسر عرفات، «اقترح أن نقونن الفساد، نجعله قانونيا تحت قبة البرلمان وأن نضع حداً مسموحاً به بدل أن يكون غير قانوني وخلف ظهورنا» هكذا هو.
كان فيصل ثاقب البصيرة، فمنذ لقائنا الأول وتحت وهج السلطة العائدة حديثاً سألته: بعد الاتفاق إلى أين نحن ذاهبون؟، كنت في مقتبل الصحافة وهو أحد أساتذتي الذين أعتز بهم أجابني: «هذا الاتفاق أشبه بالكمين الذي نصبه الإسرائيلي، لن نستطيع التقدم للأمام ولا للخلف ولا لليمين ولا اليسار، والأهم أننا لن نستطيع البقاء في المكان وستكون كل حركاتنا قفزات في الهواء» أتذكر هذا دوماً حين أرى عبث السياسة وما أوصلنا إليه الإسرائيلي.
كان واقعياً بل أحد آباء المدرسة الواقعية السياسية، لكنه كان يعرف حدودها كمفكر عاصر التجربة بكل آلامها والتي انعكست على حياته الشخصية بانهيار العائلة بعد النكبة وفقدانه والده ولاحقا عينه وكسر عموده الفقري لكنه كان شديد التماسك فكرياً وصاحب رؤية ولم ينحن يوماً، مضى زاهداً رافضاً كل المناصب كما الراحل عبد الهادي أبو خوصة.
مهم أن تعرف الأجيال تلك القامات لتتعلم وتعرف أن جيل التأسيس كان مرفوعاً على أكتاف رجال عندما نفقدهم تكون خسارتنا مدوية.