وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - بكى الرجال أمام الكاميرات ...انهار الصحافيون بألم الوداع، انفتحت سدود الدمع في المقل، بكاها الأطفال والشيوخ والعجائز اللواتي كن يتدثرن بصوتها في صقيع الخوف والموت والدمار، هي ابنتهم التي دخلت كل بيوتهم وتناولت معهم قهوة الصباح وعشاء الزيتون من الشجيرات التي ظلت تحفظ تاريخ البلاد، لقد كانت شيرين زيتونة الدار التي تحكي روايتنا في ربع القرن الأخير منذ إطلالتها الأولى بملامح حزنها التي تشبه شوارع الوطن حتى الرحيل الأخير.
كانت تراجيديا النهاية تكشف مسيرة شعبها الطويلة منذ أن سار نبيها على طريق الآلام حاملاً صليبه، كما شعب ما زال يسير في نفس الدرب الذي لا نهاية له لأن عالماً أصيبت أجهزة إحساسه بالتبلد، كانت في الطريق إلى بلد القسام لتكتب فصول مأساتها التي كُتبت على الذين من قبلها ومن سيأتون بعدها لأن ليل الاحتلال الطويل لن ينجلي بصبح لم يعد يأتي سوى بالموت.
موت في جنين وموت في القدس وموت في نابلس وموت في غزة وأسبابه واحدة، ومدن لا تفيق على زقزقة العصافير بل على أزيز الرصاص وحصاد السنابل بالقنابل في مسلسل يكرر حلقاته منذ أكثر من سبعة عقود، فقد انهارت خشبة المسرح وانتقلت الضحية ألف مرة لكن العرض مستمر دون أن يتعب المخرج خلف الستار أو تزكمه رائحة الدم التي انتشرت حد الإغماء وغطت مساحة كل هذا الزمن.
سكت الوطن عن الكلام عندما سكتت شيرين وللأبد ...هي راوية الحكاية التي تتشح ملامحها بمسحة حزننا، لأن الألم لم يترك متسعاً للحظة فرح ولو مسروقة تنسل خلسة بين رصاصتين واجتياحين واقتحامين وكارثتين وموتين، كل تلك عقدت قرانها على شعب يصحو على الموت وينام على الهدم والسجن وما بينهما من مصطلحات تأتي حيث تكون المعادلة في تضاد مع كل قوانين العدالة وحيث يتواجد الاحتلال وفي معسكراته وخوذ جنوده.
رحلت شيرين أبو عاقلة الضيفة الدائمة على بيوت الفلسطينيين، ابنتهم التي تحكي لهم حكاية قبل النوم عن شعب كان يبني عشه فوق كروم اللوز وينام على رائحة الزعتر والزنابق فأثار حسد الأسطورة التي تسللت إلى مخدع التاريخ وأغوته فتآمر معها لتتناثر الأعشاش في كل بقاع الأرض، كانت شيرين تنهي حكايتها بجرعة أمل لم تغادرها وهي تقول في السطر الأخير: «لكن الشعب سيعود على قمم الجبال».
شعب أصيب بالثكل عندما شعر في لحظة الفقد أن الحكاية فقدت راويها، وأن الرواة الذين بكوا ومزقت دموعهم كل مواثيق الحماية أصيبوا بسكتة الكلام حين عادوا يتحسسون أرواحهم إذا ما أصيبت ؟ وسألتهم زوجاتهم هل أنتم على قيد الموت؟ لم يعرفوا الإجابة لأنهم يقفون في الدور بعد زميلة تحرص على ارتداء زي الصحافة وظنوا أنها آخر من يصاب، لكن الموت الذي دخل فجأة كل مقراتهم وأطل من عدسات كاميراتهم بدا أقرب من الوريد فانهاروا على زمن بدت فيه الحياة لعبة مقامرة وسط جنون السلاح وحامليه المصابين بلوثة القوة.
كيف كان يفكر الجندي الذي قتلها؟ هل جاءته أوامر عليا بإنهاء الأمر؟ هل تراهن القناص مع زميله على أن يصطادها بطلقة واحدة كما فعل بعضهم على حدود غزة؟ هل حاول الآخر أن يمنعه لأن تلك فضيحة دولية لا يمكن تبريرها؟ هل رد عليه بأن العالم مشغول بروسيا ثم إن هؤلاء فلسطينيون، لا تقلق العالم لا يأبه بهم فقد قتلنا الآلاف هل اهتم أحد سابقاً ؟ دعنا ننهِ الأمر لنتناول فطورنا، لا يمكن فهم الأمر أو تخيل أي سيناريو فالجنون له خياله الأبعد مما يمكن أن نرسم على الورق كما نفعل للأسوياء.
على من سيأتي الدور؟ أي مدينة ستحتضن شوارعها موتاً جديداً؟ أي امرأة محايدة أخرى سيختطفها الموت من بيننا؟ من سنودع غداً وبعد غد والأسبوع القادم والشهر القادم؟ فالقطار الهائج والذي يزوده العالم بكل الوقود اللازم من الصمت لن يتوقف عن سحق أجساد جديدة، وأن يصل الأمر لقتل صحافية ففي هذا إهانة لكل هذا العالم الذي باتت كلفة موت ضميره أكبر من أن تحتمل وأقل كثيراً من أن تليق بالحضارة الإنسانية وقيمها.
من سينقذ هذا الشعب المسكين؟ هو السؤال الذي يحاكم كل الأخلاق دفعة واحدة ويضعها خلف قضبان الحقيقة ذليلة مهزوزة لأنها ضبطت متلبسة بالكذب المشهود وشهادة الزور، هذه خسارة لمنظومة إنسانية صُنعت بدماء البشر وعرقهم وآلامهم، فقد آن الأوان لوضع حد للاحتلال الذي تتفق كل المواثيق على توصيفه وطريقة معالجته أما أن يترك هكذا يعني ذلك مزيداً من الدماء.
ودع الفلسطينيون ابنتهم بفيض بالدمع، لم يصدقوا بعد أن البطلة التي رافقت كل معاركهم توقفت بالصوت والصورة وتوقفت بالبث الحي والمباشر بنهاية لا تشبه كل النهايات. فالأبطال لهم نهاياتهم التراجيدية غالباً كما في الأساطير، على مدى ربع قرن كان صوتها في كل الزوايا جزءا من دفتر يومياتهم قبل أن يحوله الجنون إلى مأساة لكنها تشبه شعبها ....يا لهذا التطابق...!!!