وكالات - تحسين يقين - النجاح الإخباري - هي الأيام دول. ولا تقف الحياة عند إنسان، وسيظل التغير قائماً.
في ظل التحولات يتغير وضع البشر، خصوصاً في منظومات الحكم والسيطرة، والحروب ونتائجها، فلا أحد يظل على حاله، وبعد كل ذلك، سيأتي آخرون ليدرسونا كما درسنا من هم قبلنا، وسيظل السؤال، هل كان بالإمكان خير مما كان؟
ويمكن للميثولوجيا أن تصاحبنا هنا، إن قدر للإنسان أن يعود من الموت الى الحياة، ما الذي سيفعله؟ وهل يمكن أن يعدل سلوكه؟
عودة حزب ما للحكم، عودة نفوذ وقوة؟
وأخيراً سيطل السؤال الحضاري داخل المجتمع الواحد، وبين الشعوب: هل يمكن أن نصل الى عقد اجتماعي يضمن الكرامة والعدالة والسلام بين أهل البلد نفسه؟ وهل يمكن أن نشهد علاقات دولية تقوم فعلاً على القانون الإنساني؟
وهل يمكن أن تصحو ضمائر المستبدين فيختارون الحرية لشعوبهم ويرحلون بصمت؟
وهل، وهذا الأهم لنا، هل سيتخلص الاحتلال من سوئه، فيجلو عن البلاد، باحثا عن أسلوب إنساني آخر للعيش؟
والآن، لعلنا نعود أطفالاً قليلا:
تقول الأسطورة، طبعاً كل وأسطورته، بأنه ذات نهار، حلت في المدينة تعويذة غريبة، فتحجر كل ما فيها، وبقي كذلك وقتاً لم يعرفه كثيرون، وتشاء الأيام، أن تزول التعويذة، فتلين الأجساد المتحجرة، فتعود للحياة ثانية. يعود كل شيء لأصله، وكأنما لم يكن ذلك التحجر الا حلماً، فاستأنف أهل المدينة حياتهم، كمشهد توقف وعاد.
استرد البشر وكل الكائنات حيويتهم، ولكن بعد فترة قصيرة لاحظ أهل المدينة أسوداً حجرية، فاستغربوا وجودها، لكنهم في النهاية، حملوها من جوانب المدينة، ووضعوها في ساحتها العامة على شكل دائرة. وهكذا عاش أهالي المدينة مع تلك الأسود، وأبنائها، ومع الزمن خفت أسئلتهم عن أصل تلك الأسود.
إلى أن كان يوم غريب آخر، حيث، كما تقول الأسطورة، قد تم حل التعويذة القديمة الخاصة بالأسود، فعادت للحياة، وهبطت من مكانها، حيث كان أهل المدينة يعيدون كل سنوات شكل وقفة تلك الأسود؛ وهكذا فما أن استعادت الأسود وعيها، حتى عادت سيرتها الأولى، حيث تدافع أهل المدينة مذعورين منها، فهجمت الأسود، وخلال وقت قصير خلت المدينة من الناس، وهرول رجال الشرطة بأسلحتهم لقتل الأسود، ولم يمنع هذا الوقت الطارئ من نقاش بين الشرطة والحاكم، عن الكيفية التي سيتم إيقاف هجوم الأسود.
لم يكن ذلك سهلاً، فكان مشهد وجود الأسود مربكاً ومشوّقاً ومخيفاً؛ وامتلأت شرفات المدينة بالأعين التي تتابع الأسود.
- من أين جاءت الأسود؟
اقترب طفل من أمه قائلا: أنا أعرف!
- ......................؟
- رأيتها تنزل من دوار الأسود هناك.
ربّتت الأم على رأس ابنها، مفسرة ذلك بأنه بسبب الخوف.
لكن الطفل استمر:
- انظري هناك، لقد اختفت الأسود الحجرية من الساحة..لقد رأيتها تنزل من هناك.
وهكذا، فقد زادت روايات الأطفال، فهم وحدهم من شهد تحول الحجارة الى لحم.
- شو يعني بدنا نرد على الأولاد الصغار..!
- طيب وين الأسود الحجرية؟
- أكيد حد سرقها!
كان نهاراً صعباً لم تنسه المدينة، وقد طارد رجال الشرطة تلك الأسود، فاختفت، وبقي الناس مسجونين في البيوت، فقط ينظرون من الشبابيك والشرفات. ولما حل الليل لم ينم غير الأطفال.
في اليوم التالي، استيقظ الناس على مشهد غريب، فقد تم رؤية الأسود الحجرية مبعثرة في شوارع المدينة، ولم يدر الناس هل يخرجون من بيوتهم أم يبقون!
لكن طفلاً، كان قد تسلل من البيت، وحين التقت عيناه بعين الأسود، همس كلمات، فرآها وهي تتحول إلى حجارة مرة أخرى.
قال لأمه:
- بإمكانك الخروج؟
- والأسود؟
- اختفت. عادت حجارة مرة أخرى. لقد رأيتها تتجمد هناك..أقصد تتحجر.
ربتت الأم على رأس ابنها، مفسرة ذلك بأنه بسبب الخوف.
تنتهي الأسطورة بأن ذلك الطفل الذي يقال بأنه استخدم تعويذة لإرجاع الأسود حجرية مرة أخرى، قد مر بجانب الأسود، وأنه اقترب منها هامساً في أذن أحدها شيئاً، ما أثار دهشة أبيه:
- ماذا؟ تتحدث مع حجارة؟
- ......................
لم يقل الطفل لأبيه ما قاله للأسد الحجريّ.
كان قد همس له: مرة أخرى عندما تعود الى الحياة، لا تهاجم الناس، فيطول عمرك.
وهكذا، أصدق الأطفال أم حلموا، فقد حمل الناس الأسود وأعادوا تشكيل وقفتها مرة أخرى، ولم ينسوا وضع سياج حديدي؛ حتى لا تهرب مرة أخرى!
ويقال، أنه بعد زمن رسم فنانون هذه القصة، بل أن مجموعة هواة، عملوا الأسطورة رسوماً متحركة، حازت على مشاهدات عالية.
ومهما كانت الأسطورة، فإنها تبقى أسطورة.
هي تشبه قصص الأطفال، التي تحل تعويذة على أهل مدينة تجعلهم منحوتات حجرية. وهي تشبه اللعبة الشعبية لدى الأطفال «صنم»، وربما نجد لها ما يشبهها في أساطير قديمة في بلاد أخرى، تستلهم هذا الخيال، وأظن أنني شاهدت فيلماً سينمائياً قريب الشبه من هذا.
كثيراً ما تعود الذكريات والتاريخ للحاضر كأنه الآن.
ولعل حادثة ضرب أحد الأسود وابنه، قبل أشهر، قد أعادت الأسود للحياة مرة أخرى..وسأرى ابن أخي: زيد سعيد يقين خريج كلية الآثار قسم الترميم، وهو يتعاون مع طواقم من البلدية، لإعادة الأسد وابنه لحالتهما الأولى.
لم نشهد في طفولتنا تلك الأسود، ونحن المولودون عام هزيمة عام 1967، وحينما رأيناها أول مرة، تساءلنا متى تم تصميمها؟ هل هي جديدة؟ فعلمنا أنها قديمة ..أين كانت؟ وهل لها قصة؟
قال الكبار أنه كانت هنا يوما؟ لكن تم أسرها في مخازن بلدية رام الله.
«قررت بلدية رام الله إقامة نصب فيها، فأوكلت المهمة لفنان من رام الله. نحت الفنّان على الحجر خمسة أسود، ووضعها على منصة حجرية، ومن حولها صنع بركاً صغيرة ومساكب للزهور، وأحاطها كلّها بدرابزين حديدي. تمثّل الأسود الخمسة العائلات الخمس الأولى في رام الله: إبراهيم، جريس، شقير، حسن، حسان. هذه ليست أسماء عوائل تمامًا، بل أسماء الأبناء الخمسة لمؤسّس رام الله راشد الحدادين، الذي وصل إلى هذا المكان في القرن السادس عشر هاربًا من الكرك».
تم وصف الأسود الحجرية المستخدمة في النصب بأنها «الرموز التقليدية للشجاعة والقوة والكبرياء».
لم يبقَ الأسود طويلاً في المكان، لأن الحاكم العسكري الإسرائيلي في المدينة أمر بإزالة الأسود من الساحة، فهل كان يهدف الحاكم العسكري المحتل إزالة الشجاعة؟
ما لم يفكر به ذلك العسكري، هو أن أهل المدينة وفلسطين يزدادون دوماً شجاعة فوق شجاعة.
تلك قصة حياة تلك الأسود.
- مرة أخرى عندما تعود الى الحياة، لا تهاجم الناس، فيطول عمرك.
- .................................!
لربما يهمس الطفل أو يرفع صوته في كل الأزمان، لكل الناس، لكل النظم، للاحتلال، لكل ظالم.
ولكن هل سيسمع الأسد والآخرون، في كل عودة حتى لا يحاكون فعلتهم الأولى: السيطرة.
لكل ما وهب من أساطير وأحلام، وللمكان ما يثير خيالاتنا صغاراً وكباراً.
هكذا وجدتني أحلم مع ذلك الطفل الذي اقترب من نصب الأسود، كم رغبت أن أعرف ما كان يهمس لها.
هل كان يتحدث لها؟
هل كنت من يتحدث معها؟
كالحلم، وجدتني أرى ذلك الطفل يقترب من الأسود الحجرية قائلاً: مرة أخرى عندما تعود الى الحياة، لا تهاجم الناس، فيطول عمرك.
ترى أين ذلك الحاكم العسكري المحتل؟
هل ضمن إذعان الناس؟ وهل فكّر بمنحوتة أرانب (مع خالص الاحترام للأرانب).. في رام الله؟