نابلس - حسن البطل - النجاح الإخباري - كلّ كائنٍ حيّ يطفو، بلا جهد، على صفحة البحر الميت، وكل زائر كبير أو صغير لهذه الديار يبذل جهده ليجعل السلام أعمق من شبر ماء. وفي بهو فندق قصر جاسر، الذي لا يضاهيه أي «هيلتون» أو «شيراتون»، خرج المضيف الفلسطيني عن النص الرسمي، الموزع مسبقاً، ودخل في عمق علاقة بدأت مع مسيرة فلسطين الطويلة من بكين ماو تسي تونغ، ووصلت إلى بعد ثلاث دقائق سير سيارة عن قدس أقداس النضال الفلسطيني. من بكين بدأت مسيرة كتيبة أبو جهاد.
تأمّلت بعض وجوه المناضلين القدامى في المسيرة. بعضهم كان نصيراً للخط الصيني، بعضهم للخط السوفياتي، الفيتنامي، الكوبي.. الجزائري.. وها هم يستقبلون، بكامل الأبهة ومراسم التشريفات، وحرارة التصفيق «بابا الفاتيكان» في ساحة المهد، ثم «بابا الصين» في مدينة المهد، أو بيت لحم 2000 والقدس على مرمى النظر والحجر، وعمّا قريب ستكون أسوار القدس العتيقة (لا حدود المدينة) على بعد ثلاث دقائق سير سيارة.. من مبنى البرلمان في أبو ديس.
.. وما من شبه إلا في التشابه الشكلي التام بين نجمة الميلاد والمهد الحمراء، ونجمة بلاد الصين الصفراء. هل جاء المجوس قبل ألفَي عام من خراسان، أو جاؤوا من «ما وراء النهر» (سيحون وجيحون).. أو جاؤوا من ظلال سور الصين العظيم؟
في ساحة المهد تتجاور نجمة الصين الصفراء على أعلامها الحمراء مع نجمة بيت لحم الحمراء على حجارة جدار أبيض نظيف، أو مع خلفية سماوية زرقاء.. وتتجاور معهما شعارات الترحيب ببابا روما. المسافة قصيرة بين ساحة أقام فيها بابا المليار كاثوليكي قداسه التاريخي، وبين الردهة الرئيسة في قصر جاسر، حيث تذكّر ياسر عرفات، قائد المسيرة الفلسطينية، رفيق دربه أبو جهاد، وتذكّره أبو علاء، الذي نوّه إليه الرئيس «أخي ورفيق دربي أبو علاء».
هذا هو ضيفنا جيانغ زيمين، «بابا» المليار وربع المليار صيني، يطفو في مياه النهر الأصفر (يانغستي) أو على سطح البحر الميت.. ويؤكد لقادة المسيرة الفلسطينية، على بعد ثلاث دقائق من حدود القدس، أن السلام الوليد «يلعبط» أولاً فوق شبر ماء من السلام، ثم يشق طريقه إلى السلام العميق والعميم.
ساعة من الاحتفال تكفي لثلاث كلمات تختصر علاقة صداقة في نعومة الحرير،، وعلاقة نضال في صلابة الفولاذ بين الصين وفلسطين، وللخروج عن النص الرسمي الفلسطيني بنص رسمي فلسطيني أكثر حرارة، وأصرح عبارة في إشارته إلى أكبر خطر يتهدد السلام الوليد: الاستيطان الذي يكاد يطبق الأفق على مدينة المهد.
ذهبتُ إلى استقبال نواب الشعب الفلسطيني لزعيم المليار وربع المليار صيني، لأن المسيرة التي بدأها أبو جهاد من بكين توشك أن تجتاز الدقائق الثلاث الأخيرة.
وذهبتُ، أيضاً، لأرى كيف يعمل رجال البروتوكول الفلسطيني ورجال البروتوكول الصيني، فوجدت الأول صارماً مثل جندي غرّ، والثاني دقيقاً ومهذباً كالطيف. فإذا وقف المصوّر الصيني على كرسي خلع نعليه.
.. وذهبت، ثالثاً، احتراماً لصاحب المكتبة في دمشق، السيد خليل تنبكجي، متعهد منشورات الصين الثورية والجميلة، والكتب فاخرة التجليد متهاودة السعر عن «المسيرة الكبرى». من تلك المكتبة تعلمت درساً لا يُنسى في دقة التحرير الصينية. كانت هناك غلطة مطبعية طفيفة، وفوقها ألصق الصينيون الكلمة الصحيحة. كم عامل اشتغل على لصق الكلمة الصحيحة فوق الكلمة الغلط؟
ماذا تعلمت، أيضاً، من مطبوعات «مكتبة التنبكجي»؟
عندما فشلت انتفاضة عمال شنغهاي ضد سلطة «الكومنتانغ»، عاد ماو تسي تونغ إلى قريته، فوجد أن جوع الفلّاحين دفعهم إلى سلخ لحاء الشجر بطول قامة الإنسان.. وغليه والاقتيات به. من هنا بدأ رهان ماو تسي تونغ على الفلاح الصيني. من هنا بدأ الخلاف مع موسكو حول «الخط الصحيح». من تصويب غلطة مطبعية في الطبعة العربية «الصين المصوّرة» إلى تصويب مسار الثورة ليلائم الصين.
ثلاث كلمات ألقيت على مدى ساعة، انتهت بأربع كلمات رقيقة في سجل تشريفات المجلس التشريعي، كتبها الضيف الكبير «أتمنى لفلسطين غداً أجمل».
قد تكون مصادفة مجاورة نجمة خماسية صفراء على علم أحمر لنجمة خماسية حمراء لمدينة بيت لحم، لكن «الغد الأجمل» لا يأتي من نافذة المصادفات، أو من باب المفاوضات ودهاليزها.. من المثابرة يأتي، ومن الحكمة السياسية يأتي.
بيت لحم صارت أجمل بعد مشروع بيت لحم 2000، وفلسطين تصير أجمل بعد قطع الدقائق الثلاث الأخيرة من مشروع الدولة. التي تبعد عاصمتها ثلاث دقائق من قاعة الترحيب بالرئيس جيانغ زيمين.
.. وفي الستينيات كان طلبة الصين بجامعة دمشق يتعلمون العربية على أصولها، ثم يتعلمون النطق الدقيق في أحاديث لا تنتهي مع زملائهم. وفي التسعينيات يتكلمون في بيت لحم العربية الصحيحة في السياسة والدبلوماسية.. في لغة القلب ولغة المصالح.
حسن البطل
15/4/2000