أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - لم أتحرر بعد من وجع الفقد لكاتب كبير وصديق بحجم ومكانة هاني حبيب، تجهزتُ لكتابة مقالي وفكرتي حول شأن آخر، لكنني شعرت بخيانة للنفس والضمير إذا اكتفيت بمقال عزاء يتيم، ونعود كأن شيئاً لم يكن، نمارس هواياتنا وترف كتاباتنا فيما ينزف القلب حنيناً وتصاب الذاكرة بما يشبه اليتم لذكريات ملأت الفضاءين الخاص والعام الذي كان جزءاً من مشهدنا الثقافي وهو أول الحاضرين في كل الأنشطة.
قبل ثلاثة أشهر كان هاني فرحاً بإجازته في تركيا والتي سمحت له بلقاء ابنه شادي الذي لم يره منذ سبعة وعشرين عاماً، كأن القدر كان يرتب له لقاء الوداع الأخير.
ليعذرني القراء أيضاً والذين أُثقل عليهم بفتح جرار حزني على صديق غادر ولن يعود، ولكن ظني بأن الذين اعتادوا على قراءة مقال الكاتب في «الأيام» بصفحة «آراء» مثلي لا يتخيلون بعد أن الصفحة خلت من اسمه وأن التحليل الرصين الذي اعتادوه لن يكون بعد الآن، وأن الرجل الذي كان يسير على الأرض كملاك، غادر دنيانا وأصاب الجميع بوجع، لأن ابتسامة كانت تسبق حضوره انطفأت، وعلى الصحافيين الذين عشقوه في غزة أن يعتادوا على الحياة بدونه.
قال لي «كنا في الغور مقاتلين، جاء أبو علي مصطفى، جهزنا وجبة الغذاء وجلسنا على الأرض ونزعنا أحذيتنا، وبقي أبو علي مرتدياً حذاءه ... قلنا: لأنك قائد لا تنزع الحذاء، أصيب أبو علي بالحرج، فنزع حذاءه لنتفاجأ أنه كان محرَجاً لأن جواربه مثقوبة ومتهالكة، كان هذا أول درس في البساطة بالنسبة لي، هكذا تعلم التواضع والبساطة، كان يرى أخلاق جورج حبش وبساطة ياسر عرفات وكل جيل التأسيس من البسطاء والكبار.
كان هاني بريئاً إلى حد مدهش، الى درجة التناقض بين دهاء المعرفة المكتوبة وبراءة السلوك اليومي الذي يشبه القديسين والأم تيريزا. كان الكاتب العزيز طلال عوكل الذي عرفه قبلنا يهدئنا قائلاً: «هذا هو هاني لا تستغربوا»، عاش حياته ناسكاً لكنه كان الرجل الذي أخذ بيد الكثيرين من هواة الصحافة ليصبحوا محترفين في هذه المهنة.
عن الكثير كانت ذاكرته تختزن ما يكفي من الذكريات، عن غسان كنفاني وعن بسام أبو شريف، وعن لقاءات ياسر عرفات مع الحكيم وكيف كانا يختلفان ويتعانقان ويتصارحان باحترام وكيف يلتقي الكبار، وعن وديع حداد وصلاح خلف وخليل الوزير، وعن بيروت والحرب وبشير الجميل وأخيه أمين، وعن نايف حواتمة وعن مجلة «الهدف» والصحافة اللبنانية والحياة السياسية، ولسوء حظنا أنه لم يكتب مذكراته ولم يكتب تاريخنا المرصع بالحماسة قبل أن يصاب بالخفوت.
يا له من تاريخ ينسحب من حاضرنا كأننا نغادر زمن الكبار لنغرق في زمن هو ليس زمننا، ونحن نسأل أين ياسر عرفات وأين جورج حبش وأين محمود درويش وأين حسن البطل وأين أحمد دحبور وأين هاني حبيب؟ كأن علينا أن نعتاد وأن نتعايش مع زمن لا يشبهنا بشخوصه ورجاله الذين كانوا يوماً من ثوار ومبدعين ومثقفين ومقاتلين، من الذين تحلوا بأخلاق الفرسان في صراعاتهم قبل أن تنحدر إلى مستوى ما يشبه الغاب في صراعاتنا الجديدة.
كنا نتنقل بسيارته على صوت فيروز التي لم يحتفظ بأشرطة لغيرها. أما لماذا فيروز؟ فهي تذكره بزمن الطهر الثوري في لبنان، والآن أستمع لفيروز لأستعيد الذكريات مع هاني حبيب، أشتمُّ رائحته ورائحة الزمن الثوري في أغانيها وفي الترانيم التي ارتبطت بإيماءاته وابتسامته، كان يتحدث في السياسة على ترانيمها ليعطي للحياة لوناً وطعماً ورائحة غادرت لحظة وداعه. كنا نتحدث عن الفكرة التي سيكتبها كلانا من زاوية مختلفة، كنا نسهر طوال الأسبوع إلا تلك الليالي التي يكتب فيها حيث ينزل الى صومعته التي قام بتأثيثها كما كان يحلم.. يا لها من ذكريات امتدت على مساحة كل هذا الزمن كانت كفيلة بإعلان التوأمة وبإعلان اليتم أيضاً.
يمكن أن تسير مع هاني حبيب لتكتشف أن لا قيمة للمال، ومع الزمن تصبح تلك قناعة لأنك رأيتها وعايشتها، ومع الزمن تكتشف أن الفرد يحب أن يبتعد عن المناصب ليُبقي على نقائه فبقينا هو وأنا خارج أي مؤسسة أو هيئة أو جمعية أو نقابة كما كان يقول الصديق فريح أبو مدين «صعاليك الثقافة» بعيداً عن هياكل الذين يقاتلون على المال والمناصب... أن تصادق هاني حبيب هذا يعني أن القدر يهديك تجربة لترى عن قرب كيف تتجسد الإنسانية، وتتعلم كيف تكون السعادة حين تعطي وليس حين تأخذ.. ولكن تعرف أكثر كيف يكون الوفاء لذكريات أصيبت بالعطب ولمهنة فقدت عزيزا لتحافظ على اسمه على رأس صفحته في «آراء «.. وفي القلب والذاكرة.