رجب أبو سرية - النجاح الإخباري - انسحاب القوات الروسية من محيط العاصمة الأوكرانية كييف، لا يعني أبدا أن القوات الروسية قد انهزمت أو أن القوات الأوكرانية قد صدت العدو عن العاصمة، أو أنها انتصرت في معركة كييف، ذلك أن الروس لم يكونوا يريدون لا دخول العاصمة، ولا احتلالها، بل إنهم كانوا من خلال محاصرة العاصمة وعدد من المدن الرئيسة يسعون لمجرد تحقيق الأهداف المعلنة لعمليتهم العسكرية، وهم بإعادة نشر قواتهم على الأرض الأوكرانية وبعد أكثر من أربعين يوما على بدء تلك العملية، حققوا معظم أهدافهم، بل إن خروج قواتهم كلها من الأرض الأوكرانية متوقف على سير المحادثات بين وفدي البلدين، عبر اللقاءات الجارية في تركيا، فإن وافقت كييف على إعلان عدم انحيازها بين روسيا والغرب، والتزامها بعدم التقدم بطلب الانضمام لـ»الناتو» أو للاتحاد الأوروبي، فسيكون ذلك بمثابة إعلان انتهاء للحرب بين البلدين الجارين، وبالتالي خروج الجنود الروس من أرض أوكرانيا، بما في ذلك إقليم دونباس، الذي لم تعلن جمهوريتاه بعد انضمامهما للاتحاد الروسي.
وكما يعرف خبراء العلاقة بين الحرب والاقتصاد، أو بين الجانبين العسكري والسياسي، فإن نتائج الحروب تظهر من خلال ما يتبعها من نتائج سياسية، وكما أشرنا قبل قليل، فإن نتيجة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستظهر بانعكاساتها على المفاوضات بين وفدي البلدين، وليس كما يدعي الرئيس الأميركي جو بايدن ولا حتى كما يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع أن انسحاب القوات الروسية من محيط كييف، في الوقت الذي سيطرت فيه القوات الانفصالية في شمال شرقي أوكرانيا على أراض إضافية وسعت من تلك المنطقة وحققت تواصلها، كذلك ما حدث من احتلال لخيرسون، التي وفرت المياه للقرم ووصلته بدونباس، يعني بأن الروس حققوا على الأرض خطا فاصلا بين شرق أوكرانيا وغربها، وكأن أوكرانيا قد انقسمت بين دولتين شرقية وغربية، لكن ليس في استنساخ تام لما كانت عليه ألمانيا أو لما هي عليه كوريا، ذلك لكون القرم ضمن الاتحاد الروسي، فيما تعتزم جمهوريتا دونباس الانضمام لروسيا، فذلك يعني أنه لن تكون هناك دولة أوكرانيا شرقية، بل ستبقى أوكرانيا واحدة لكن بحدود داخلية، وبعد أن تخسر نصف مساحتها تقريبا.
لا شك أن إعلان روسيا عن انتهاء عمليتها العسكرية، بعد اتفاق مع كييف أو دونه، ستتبعه مواقف وترتيبات سياسية، ذلك أن العملية نفسها جاءت تعبيرا عن حرب اقتصادية بين الدولتين الأعظم عسكريا في العالم، وهما روسيا وأميركا، والحرب الاقتصادية لن تتوقف بمجرد وقف إطلاق النار، لكن قد تنخفض وتيرتها خاصة في المدى المنظور، أما في المدى البعيد فقد يتغير مسارها، لكن يمكن توقع أن يتبع توقف إطلاق النار، تغير في القيادات السياسية في الدول التي تعتبر هي الأطراف الرئيسة في تلك الحرب، وهي بالطبع روسيا وأميركا وبينهما أوكرانيا.
أول ما يجب مراقبته هو مستقبل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي قد يعتبر في نظر الأوكران مغامرا، أو أنه ما زال ممثلا هزليا، لم يدرك الفارق بين خشبة المسرح، ومسرح السياسة، فهو راهن على حماية الغرب، وعلى دفاعهم عن أوكرانيا، بمنع أو ردع الروس عن مهاجمتها، بطريقة ما، لكن تقديراته كانت خاطئة، ورغم أنه أظهر رباطة جأش، إلا أنه بالغ كثيرا في توقع مقاومة جيشه أو بلاده للقوات الروسية، فكانت الحرب ـــ تقريبا ـــ من طرف واحد عسكريا، فيما كان الاشتباك الاقتصادي هو الأبرز، ولم تكن أوكرانيا بالطبع طرفا فيه.
فقد ينجم عن هذه الحرب سقوط زيلينسكي، لكنه قد يبقى أيضا، خاصة أن البلاد قد شهدت نزوح أكثر من أربعة ملايين أوكراني لخارج البلاد وهذا يشكل 10% من سكانها، فيما اضطر نحو 15% آخرون من سكانها للنزوح الداخلي، بما يعني بأنه ليس من السهل إجراء انتخابات رئاسية جديدة، لكن قد يضطر الوفد المفاوض الأوكراني أن يجبر زيلينسكي على الاستقالة مثلا، وربما لهذا فإن الرئيس الأوكراني كان يتوجس ريبة في أعضاء وفده لدرجة أنه قيل إن نظامه قام بقتل أحد أعضاء الوفد.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد ظهر في نظر شعبه كبطل قومي، يعيد أمجاد الاتحاد السوفياتي أو حتى أمجاد القياصرة، فهو لم يتردد في مواجهة الغرب من أجل حماية مواطني دونباس الروس، وأدار المواجهة عسكريا وسياسيا وحتى اقتصاديا باقتدار وقوة، لم يظهر عليها خصمه الرئيس الأميركي جو بايدن الذي بدا عصبيا لدرجة أنه هاجم بوتين شخصيا أكثر من مرة، لذا من الصعب توقع أن يهتز عرش بوتين، على الأقل في المدى المنظور، فالغرب يراهن على إخراج بوتين من الكرملين بنتيجة الحصار الاقتصادي، وهذا يعني انتظار وقت طويل.
أما الانتخابات الرئاسية الروسية فموعدها العام 2024، أي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية بأشهر، أو بعد عامين من الآن، فإن كانت العقوبات الأميركية للاقتصاد الروسي خلالهما قد أضرت به، يمكن حينها توقع أن يخسر بوتين المعركة الانتخابية، لكن وحيث إن الخارطة السياسية الداخلية الروسية لا تضم حزبا معارضا متداولا للسلطة، فإنه من الصعب توقع أن يسقط بوتين بنتيجة عمليته العسكرية في أوكرانيا، وبنتيجة مواجهته وتحديه للغرب.
أما بايدن، فيمكن القول، إنه هو المرشح للسقوط جراء فتحه لتلك المعركة مع روسيا، ويبدو أن «الاستقرار» الذي شهده النظام الأميركي خلال العقود الثلاثة التي تلت انتهاء الحرب الباردة، وشهدت تداول البيت الأبيض بين الحزبين بمعدل ولايتين لكل حزب أو لكل رئيس ينتمي لأحد الحزبين ما بين عامي (1990 ـــ 2016)، والتي كان خروج دونالد ترامب بعد ولاية واحدة قد وضع حدا لذلك التقليد، يؤكده خروج بايدن إن حدث، رغم أنه كان قد أعلن أنه لن يترشح مجددا بسبب تقدمه في السن، لكن نائبته كامالا هاريس تظهرها استطلاعات الرأي خاسرة أمام دونالد ترامب، الذي عاد مجددا للتفوق على بايدن وهاريس، بل وكمرشح قوي له فرصه كبيرة في الفوز في انتخابات 2024.
أما الاختبار الحقيقي لبايدن وحزبه الديمقراطي فسيكون قريبا في الانتخابات النصفية للكونغرس، فإن تفوق الجمهوريون على الديمقراطيين، فسيكون ذلك بسبب سياسة بايدن الخارجية الفاشلة، إن كانت تلك التي اتبعت في الخروج الفوضوي من أفغانستان أو في إدارة الملف النووي مع إيران، أو في إدارة المعركة العسكرية ـــ الاقتصادية مع بوتين.