عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - الشيء المؤكّد، ومنذ الآن، وبصرف النظر عن النتائج التفصيلية الملموسة للحرب القائمة في أوكرانيا بين روسيا وحلف شمال الأطلسي على الأرض الأوكرانية، أن ثمّة نظاماً عالمياً جديداً هو الآن في طور التبلور والتطور، وبخطوات متسارعة.
النظام العالمي الجديد المقبل علينا سيعيد ترتيب نفسه وفق محدّدات جديدة لم تكن ظروفها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية، العلمية والتكنولوجية، الأمنية والعسكرية متوفرة في صلب النظام العالمي الذي "تأسّس" بُعَيد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا حتى بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي وخسارته لـ"الحرب الباردة" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة.
لم تكن أسلحة الدمار الشامل قد "تطوّرت" بعد في الحرب العالمية الأولى، وكان تطورها أكبر في الحرب العالمية الثانية، لكن السلاح النووي تحديداً ظلّ محصوراً ومقصوراً على الولايات المتحدة، وتم استخدامه بصورة غادرة، ولاستعراض القوة والبطش، ودون أي سبب أو مبرر عسكري من أي نوعٍ كان.
أما في "الحرب الباردة" فقد نشأت وتطورت في ضوء انقسام العالم إلى معسكرين وحلفين عسكريين هما: حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وحلف المعسكر الشرقي "وارسو"، إضافة إلى انبثاق كتلة عدم الانحياز، وتحول الصراع بين مكونات هذا النظام من حقل الحرب المباشرة بين الجيوش في الحلفين إلى سباق للتسلح، وإلى حروب بالوكالة، وإلى صراعات بين شعوب المستعمرات والاحتلالات العسكرية المباشرة لبلدان هذه الشعوب، وإلى صراعات تحررية ووطنية وقومية ضد كل أشكال الاستعمار الحديث بعد انهيار النظام الاستعماري الدولي بأشكاله المباشرة.
كان من نتائج الحرب العالمية أن ظهر إلى العالم المشروع الصهيوني بعد "وعد بلفور"، ووقوع معظم العالم العربي تحت السيطرة المباشرة للدول الاستعمارية، وكان من النتائج المباشرة للحرب العالمية الثانية قيام دولة الاحتلال الصهيوني على أكثر من 78% من فلسطين، وبدأ ثورات التحرر الوطني و"الاستقلال" في العالم كله ومن ضمنه البلدان العربية.
ترافق النظام العالمي الجديد الذي نتج عن هذه الحرب العالمية مع ثورات وانقلابات عسكرية في مصر ثم العراق وسورية وليبيا والسودان واليمن، وحصلت حركة "الاستقلال" الوطني في عموم الإقليم على قوة دفع كبيرة أدت إلى تغيرات هائلة في الخارطة السياسية للإقليم بفضل الدعم السوفييتي، وبفضل تبلور حركة عدم الانحياز.
في هذه المرحلة تزعمت الولايات المتحدة العالم الرأسمالي، وتراجع الدور البريطاني والفرنسي، وهزمت فرنسا في الجزائر، وانطلقت الثورة الفلسطينية المسلحة بدءاً من العام 1965، و"انسحبت" بريطانيا من الخليج العربي مُخلية أمام أميركا إعادة السيطرة على هذه المنطقة الحساسة من العالم، وعصفت بالعالم حروب وانقلابات وصراعات مدعومة من هذا الحلف أو من الحلف الآخر.
ومع نهاية هذه المرحلة التي انتهت بانتصار الغرب تطور المشروع الصهيوني والذي كان قد تمدد في ضوء نتائج حرب حزيران، حيث وقعت كل فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني، وتم خروج مصر وإخراجها من الصراع، وتم تدمير العراق، وحوصرت سورية ثم تم تدميرها، وكذلك الأمر تم تدمير اليمن والسودان والصومال، وظهرت البلدان الخليجية لاعباً رئيساً في الإقليم العربي وأُجبرت فلسطين على الدخول في مشاريع الغرب للتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، بعد أن فقدت ظهيرها الدولي، وبعد أن تمّ "تجريدها" من عمقها القومي والإقليمي.
وهكذا يمكننا أن نصف مرحلة انتصار الغرب في "الحرب الباردة"، والتي هي شكل خاص من الحرب العالمية بأنها مرحلة التراجع الاستراتيجي للقضية الفلسطينية.
بين نهاية "الحرب الباردة" والآن، أي الفترة التي أصبح الغرب فيها هو القطب الوحيد المتحكّم والمسيطر طرأت تغيرات هائلة تشكل في تفاعلها المشترك وتأثيرها المتبادل الأسس والركائز والقواعد التي سيرسو عليها النظام الدولي الجديد، والذي سيكون البديل والوريث للنظام الذي يتداعى الآن على الأرض الأوكرانية، وللنظام الذي سينشأ عن نتائج الحرب الأوكرانية بالذات.
فما هي هذه المتغيرات الهائلة التي تحولت إلى الركائز والأسس والقواعد الجديدة؟
أولاً، الصعود الصاروخي للاقتصاد الصيني، وتحول الصين إلى دولة عظمى في كافة المجالات، وبكل المقاييس، وبدء تحول هذا الصعود إلى قوة اقتصادية منافسة للولايات المتحدة مع ثبات معدلات هذا الصعود إلى درجة توقع تخطي وتحدي الاقتصاد الأكبر في العالم، وهو الاقتصاد الأميركي.
ثانياً، استرجاع روسيا لعافيتها الاقتصادية، وإعادة بناء جيوشها، وإعادة هيكلة اقتصادها واستثمار ميزاته النسبية المتفوقة في مجال الطاقة، وفي الصناعات العسكرية، إضافة إلى الفجوة الهائلة التي يتمتع بها، وتفصله عن بقية دول العالم في الثروات الطبيعية في مجالات التعدين والصناعات التحويلية التي تعتمد على أكبر وأجود وأهمّ المعادن الصناعية.
ثالثاً، تحول المنافسة الاقتصادية إلى منافسة في مجال الثورات العلمية الجديدة، وتبعية المنافسة الاقتصادية للتطور العلمي في مجال هذه الثورات. وهنا نحن أمام ثورات صاعدة بصورة تفوق الخيال في مجال الاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الصناعي، واقتصاديات المعرفة والحروب "السيبرانية" وغيرها مما يصعب، بل ويستحيل تتبّعه ورصده وملاحقته.
رابعاً، "ارتداد" العولمة إلى مستويات "جديدة"، وانتقال تدريجي من "العولمة" كإحدى آليات التحكّم الغربي بالاقتصاد العالمي وإلى مراقبة حركة رؤوس الأموال إلى مستويات غير مسبوقة من التشابكية والاعتمادية، في نفس الوقت (وهذه هي الظاهرة التي لم يجد لها الفكر الاقتصادي حلاً حتى الآن) الذي تتعزز فيه ومن خلاله السمات "القومية" لهذه العولمة وإعادة "تتبيع" الشركات إما إلى دولة "المنشأ القومي"، أو إلى مجموعة الدول التي تسيطر أو تتحكّم بالشركات العملاقة".
خامساً، توطّد ظاهرة ما بات يعرف بالدول الصاعدة، وهي دول أصبحت من القدرة والمكانة الاقتصادية بفروعها الريادية في المجال المعرفي للاقتصاد تخطو بصورة حثيثة نحو درجة متقدمة من استقلال قرارها السياسي، وحماية أمنها القومي. وهناك ما يقارب العشرين بلداً تصنف في هذا الموقع والمجال.
سادساً وأخيراً، هو وقوع الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية واقتصادية، وإلى حدٍّ ما ثقافية في حالة من اللااستقرار والتأرجح بين التصدع الذي أحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد، وعدم القدرة على الخروج من "الأبوية" الأميركية "ممثلة" في الانسياق الأوروبي خلف الولايات المتحدة، والأخطار التي يمثلها هذا الانسياق على مستقبل وحدة هذا الكيان الأوروبي وتماسكه.
هذه هي أهم معالم ومكونات ومقدمات وركائز وقواعد النظام العالمي الجديد، وتطرح مسألة الاتحاد الأوروبي تحديات أمام الفكر السياسي حول علاقة الاقتصاد بالسياسة.
انخرطت فلسطين في إطار سياسات المعسكر الشرقي إبّان كامل مرحلة "الحرب الباردة" مع أن (عينها كانت) على نوع من الانفتاح على الغرب، ولكنها لم تتمكن سوى أن تنسج علاقات محددة وملموسة مع أوروبا الغربية.
مع نهاية "الحرب الباردة" وانهيار الظهير الدولي تحولت السياسة الفلسطينية إلى المراهنة الكبرى على أوروبا الغربية مع أن (عينها) كانت على الولايات المتحدة التي هي العنصر المقرر للغرب كله، وهي الحليفة الصلبة لإسرائيل. فهل ستستفيد فلسطين من النظام العالمي الجديد، وتعيد حساباتها واصطفافاتها، وتعرف كيف تستثمر في الظروف الدولية الجديدة، أم أنها ستبقى دون مستوى القدرة على المراجعة واسترجاع زمام المبادرة؟
هذا هو ما سنحاول معالجته في المقال القادم بعد محاولة تحديد الإطار العام لهذا النظام الجديد.