أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - سمة التاريخ الرئيسة أنه دائم الحركة ولا يتوقف، إنه كائن حي يمشي ويتنفس ويمكر ويسخر أحياناً، تتجدد فيه خلايا وتموت أخرى.
كثيرون حاولوا أن يوقفوا التاريخ عند لحظتهم ليدوسهم ويتركهم جثثاً هامدة ويمر، ولو لم يكن كذلك لما استمرت كتابته أو لتوقف عند أول امبراطورية وأول دولة وأول معركة وأول الأشياء وانتهى.
هذا قدر صراعاته وكل أدواته التي استخدمها في لحظة ما وتخلى عنها عندما تقادمت وفقدت دورها الوظيفي، وهو العامل الرئيس الذي يحدد بقاء أو إزاله أي ظاهرة أو قوة هذا الدور الذي يستدعي مؤسساته وجيوشه أو حتى رجاله في زمن ما ....قبل أن يصبحوا شيئاً من الماضي، وهو مسرح كبير أدى جميع الأبطال أدوارهم على خشبته ونزلوا مع انتهاء العرض.
أوروبا كانت واحدة من أهم مسارح التاريخ وتجاربه التي لا يمكن تجاهلها في صياغة التجربة الإنسانية بفرحها وحزنها، شقائها وسعادتها، حربها وسلمها. ففيها نشأت التجربة السياسية، وفيها تشكلت الدولة بمفهومها الحديث وفيها تم اختراع معظم الاختراعات والثورة الاقتصادية والثورة العلمانية والقوميات، وفيها أنتجت الأفكار التي تصارعت، وعلى أرضها سحقت نفسها مرتين، وفيها تم اختراع البارود مادة الموت الكبرى، ومنها خرج فلاسفة ألمانيا ماركس وهيغل وفورباخ ونيتشة وشوبنهاور ومفكرو فرنسا فولتير ومونتسكيو وروسو وسارتر ومن إنجلترا شكسبير وأول الصناعة في مانشيستر، ومنها خرجت أفكار الاحتلال لتحتل دولها معظم شعوب العالم، وها هي تستعيد من جديد كل الهواجس مع أول طلقة على حدودها الشرقية.
بعد الحرب الأولى الطاحنة شكلت أوروبا عصبة الأمم ظناً منها أنها قادرة على ضبط إيقاع صراع الأفكار والمصالح والمطامع، ففشلت العصبة لتفسح الطريق أمام الحرب الأكثر ضراوة والتي أعادت هدم أوروبا من جديد.
بعد ذلك كانت الفكرة بالمؤسسات الدولية وبتشكيل مؤسسة عسكرية دفاعية لمواجهة وردع أي قوة عن تكرار تجربة الحروب والاعتداء، وكان المستهدف حينها الاتحاد السوفييتي الذي بدأت تظهر نواياه منذ تحقيقه النصر على القوات النازية من الجهة الشرقية وتربعه على عرش المنتصرين.
فكرة حلف شمال الأطلسي «الناتو» كانت مع نهايات أربعينيات القرن الماضي وكان هدفه حماية أوروبا من الصراعات المسلحة ومواجهة الجيوش. وربما كان ذلك أفضل ما أنتجت أوروبا.
في زمنه كان ملائماً، في تلك اللحظة التاريخية كان قادراً على التصدي بل وهزيمة أي قوة بحرب كلاسيكية. ولم يكن حينها يمتلك السلاح النووي سوى الولايات المتحدة وقد استخدمته بعد أن انهزمت اليابان لتعلن عن نفسها قوة طاغية، ولم تكن لتستخدمه مرة أخرى في أوروبا.
ولكن بعد أن أصبح في أوروبا ثلاث دول تتسلح بالقنابل الذرية القادرة على سحق عواصم وجيوش بلمح البصر، وعندما تسيدت القنبلة كقوة ردع هائلة هل بقي للجيوش الكلاسيكية قيمة في منطقة تنتشر صواريخها وغواصاتها وقادرة على إبادة الخصم حتى بعد أن تنهزم ويتم تدميرها؟ وهو ما جسدته فرنسا منتصف ستينيات القرن الماضي عندما غادرت الناتو لمدة ثلاثة عقود بهدف تطوير الردع النووي الفرنسي وقد حصل، فما يحمي فرنسا ليس الناتو بل قنبلتها الذرية وغواصاتها، وكذلك بريطانيا تتكئ على قوتها النووية للردع وليس القوة الكلاسيكية للناتو التي اتضح في حرب أوكرانيا أنها عجزت عن الحركة.
وتبدى الأمر أكثر أمام ألمانيا التي أدركت محدودية المساحة التي يتحرك فيها حلف شمال الأطلسي لتقرر أن تخرج على سياستها القديمة وتذهب باتجاه بناء قوة ألمانية خاصة.
وفي العالم الجديد لن تكون ذات شأن أمام اللحظة النووية فقد غادرنا زمن الحروب الكلاسيكية.
وإذا كانت الحرب العالمية الثانية على شكل جيوش آدمية تواجه جيوشاً، فإن ما يحدث الآن هو حرب عالمية ثالثة حقيقية.
فللحرب عدة صور إحداها فقط القتال وما يحصل الآن من حرب اقتصادية وإعلامية واستخباراتية، هي حرب شاملة بلا قتال وإن ظل محصوراً في أوكرانيا فقط فهي حرب عالمية ولكن أيضاً أدواتها قديمة بدا أنها تعود لأزمنة قديمة يسخر منها التاريخ، ففي عصر العولمة وترابط الاقتصاد العالمي لا يمكن شن حرب اقتصادية.
وقد تصلح الحرب الاقتصادية ضد دول صغيرة لا تساهم في الاقتصاد العالمي مثل إيران أو أفغانستان أو ضد دول ليست فاعلة في الاقتصاد الدولي، ولكن ضد دولة مثل روسيا فقد يكون الثمن فادحاً للدول التي تقطع معها.
هذا ما أشار له الدكتور فضل عاشور عن ثلاث سلع لا يمكن للعالم أن يخسرها باعتبار أن روسيا منتجة للقمح والنفط والغاز وأيضاً للسلاح. وهي ثلاث قضايا تعتبر مواد حياة أو موت لا يمكن للدول أن تقبل بأن يجوع أبناؤها أو يموتوا من الصقيع في أوروبا أو تتوقف المصانع وأن تضعف تسليحاً بسبب التعنت الأميركي الذي لم يقدم ضمانات لروسيا قبل أن تندلع الحرب وتتسبب بكل ما يحدث.
وكان يمكن حل المسألة بالمفاوضات وهو الطريق الوحيد الذي ستنتهي به الحرب وبدأت في الأيام الأخيرة حركة مهمة بين روسيا وأوكرانيا بهذا الاتجاه لكن بعد أن تكون قد دمرت أوكرانيا التي دفعت ثمن تصلب واشنطن قبل الحرب ليكتشف رئيسها أنه وحيد كما قال.
لتكون الفكرة أكثر مباشرة، ما الذي منع الناتو من إعلان الحرب وتحشيد الجيوش كما حصل في الحربين العالميتين في القرن الماضي؟ ببساطة لأن الخصم يمتلك القدرة لتدمير القارة وهنا عقدة الجيوش، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هياكل الحروب القديمة تآكلت وتجاوزها الزمن وأبرزها الناتو الذي يقف مندهشاً أو يبدو كحالة إغاثية في أحسن أحواله أو يحاول أن يقدم مساعدات عسكرية من بعيد خوفاً من استفزاز الخصم والدخول بحرب مدمرة كما يخشى الرئيس الأميركي الذي أعلنها صراحة أن «لا قتال للناتو مع روسيا خوفاً من حرب عالمية». وأمام هذا الواقع الذي تتقدم فيه الحرب بمكوناتها الاقتصادية والإلكترونية والإعلامية وبحياد كامل للجيوش الكلاسيكية والقتال وفي ظل قوة تدمير أكبر كثيراً ما جدوى الناتو الذي يشكل عبئاً اقتصادياً وعسكرياً على دول أوروبا؟ إلا إذا كان له استخدامات أخرى لدول شرق أوسطية فقيرة وتلك أيضاً لا تلزمها جيوش الناتو ويمكن للولايات المتحدة أن تخوض حروبها فقدراتها كارثية لا أن ترهق موازنات أوروبا وتزجها في حروبها، آن الأوان لأن تفكر أوروبا بمعزل عن الولايات المتحدة..!