جمال زحالقة - النجاح الإخباري - قام رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، بزيارة خاطفة الى روسيا، التقى خلالها لمدة ثلاث ساعات متواصلة، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسط تكهنات عن وساطة إسرائيلية في الحرب الساخنة الملتهبة في أوكرانيا، والحرب الباردة الدائرة بين الغرب وروسيا. وبغض النظر في ما إذا كان بينيت وسيطا، يطرح حلولا، أم مرسالا ينقل المواقف من طرف لآخر، فإنه من المثير للدهشة والاستهجان، كيف يلعب مجرم مثل هذا الدور، وكيف يوقف مجرم حرب حربا!
وكما في كل الحروب القذرة، الشعب هو الذي يدفع الثمن. وقد صرح رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي، هذا الأسبوع بأن عدد الضحايا من الأطفال وصل الى 52 قتيلا، وهذا بالطبع أمر فظيع ومؤلم، وهناك قيمة أخلاقية عالية لكل محاولة مخلصة لوقف نزيف الدم، لكن كيف ستقوم إسرائيل بذلك؟ وكيف ينقذ قتلة الأطفال أطفالا؟ ففي الحرب على غزة عام 2014، قتل الجيش الإسرائيلي 530 طفلا فلسطينيا، أي أكثر من عشرة أضعاف أطفال أوكرانيا. ولو أخذنا بعين الاعتبار أن عدد سكان غزة 2 مليون، وعدد مواطني أوكرانيا 40 مليونا، نصل الى نتيجة أن إسرائيل قتلت 200 ضعف! وهذا فقط في «عملية عسكرية» محدودة في غزة سمتها إسرائيل «عملية الجرف الصامد».
الفرق والمفارقة أن روسيا تواجه في حربها على أوكرانيا حالة «الجريمة والعقاب» أما إسرائيل فلم تواجه أكثر من «الجريمة والعتاب» وغالبا لم يكن حتى عتابا.
أما نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي لبس هذا الأسبوع ثوب الوسيط، فقد كان الأكثر تطرفا خلال حرب «الجرف الصامد» واتهم نتنياهو ويعالون بالتخاذل وضعف الإرادة، لعدم مواصلة القصف والحرب، وقال في مقابلة صحافية: «في عملية الجرف الصامد، كنت أكثر تشددا من الجيش، والأجدر أن يكون العسكر أكثر تطرفا من السياسيين». وردا على سؤال حول موقفه من قتل أطفال يطلقون البالونات من غزة، قال «يجب التعامل معهم وكأنهم يطلقون القذائف المدفعية». وهو تباهى بأنه في الحرب على لبنان عام 2006، شارك، كضابط في الجيش، في قتل عدد من اللبنانيين، وأطلق مؤخرا تهديدات دموية على غزة. هو ينتمي إلى عائلة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وحين يكون مجرم الحرب وسيطا للسلام، فلن يصبح على الدنيا سلام.
بينيت يقتحم ملعب الكبار
اقتحم نفتالي بينيت رئيس وزراء دولة صغيرة هي إسرائيل، ملعب الكبار وساحة القوى الكبرى. وقد فعل ذلك وله أهدافه المعلنة والخفية، ولكن لماذا وافقت روسيا والولايات المتحدة وأوروبا على أن يدخل هذا «الولد» الصغير ساحة ملعبها؟ ويحظى باستقبال في موسكو، وبمباركات أمريكية وأوروبية وأوكرانية، فحتى بالمقاييس الإسرائيلية يعتبر بينيت قزما سياسيا، شاءت تعقيدات العلاقة بين الأحزاب أن يضعوه على كرسي رئاسة الوزراء، في منصب لم يكن حتى مرشحا ممكنا له في يوم من الأيام. ولا يعتقد أو يتوهم أحد في العالم أن بينيت يملك قدرات شخصية خارقة تؤهله أن يلعب دورا في ملعب الكبار، وكذلك لا أوهام (سوى عند بعض العرب) حول وزن دولته. فمهما قيل عن قوتها، فهي في أقصى حد قوة كبرى إقليمية، ولكنها صغيرة وعلى هامش الدنيا في الحسابات الدولية. كان من السهل على بوتين أن يستقبل بينيت، بالذات لأنه خفيف الوزن، ولأنه جاء بلا شروط مسبقة، ولم ينضم علنا للتحالف الغربي ضد روسيا، وعنده قنوات اتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة وأوكرانيا وأوروبا، وربما لاعتقاد ووهم بأن لليهود تأثيرا غير اعتيادي على سياسات الدول. لقد قام بوتين باستضافة بينيت وحمله ما يريد من الرسائل إلى الأطراف المختلفة، واستغل الزيارة لتوجيه خطاب للعالم بأنه مستعد للتفاوض، ويبقي الباب مفتوحا للدبلوماسية. ومما قيل عن «وساطة» بينيت، إنها مكملة للمفاوضات الجدية المباشرة الجارية في بيلاروسيا، ويبدو أنها مكملة بمعنى أنها قناة لفحص ردود الفعل على مقترحات روسية عند زيلينسكي مباشرة، وعند القيادات الأوروبية والأمريكية، التي لا ممثلون لها في مفاوضات بيلاروسيا.
يبدو أن بوتين يرى في بينيت «ساعي بريد» نشيط وقليل التكلفة، فهو لا يضع شروطا وليست لديه القدرة على تفعيل الضغوط، ولا ثمن لفشل مهمته ولا وزن لزعله. ويبدو أيضا أن بينيت صالح لمرحلة جس النبض، وحين تكون اتصالات جدية للوصول إلى حل، سيقف جانبا، فبوتين بحاجة إلى سلم قوي حين يقرر النزول عن الشجرة، وهو لن يمنح إنجاز إنهاء الحرب، إلا لمن سيربح منه كثيرا، وبينيت بالتأكيد ليس كذلك.
ماذا يريد بينيت؟
ظهر بينيت مزهوا بنفسه، في جلسة حكومته في مطلع هذا الأسبوع، وقال بحذر: «لقد سافرت للمساعدة في الاتصالات بين الأطراف.. سنواصل المساعدة، إذا طلب منا ذلك، حتى لو كانت الآمال ليست كبيرة» وربط بين زيارته والاهتمام بأحوال واحتياجات اليهود في روسيا وأوكرانيا. يبدو أن زيارة بينيت جاءت باقتراح من المستشار الألماني، شولتس، الذي زار إسرائيل مؤخرا، وبطلب من الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، الذي يواجه حالة صعبة جدا، ويبحث عن مخرج عبر قناة اتصال مع بوتين. وقد نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، أمس الأربعاء، أن بينيت «لم يسافر ليقوم بالوساطة، ولم يطرح حلولا وسطا، هو سافر لأنه القائد الغربي الوحيد الذي يستطيع أن يجري لقاءً حميميا طويلا مع بوتين، ويحاول أن يستشعر حالته النفسية ونواياه الحقيقية ومخططاته وخطوطه الحمر. ويقوم بفحص رد فعله على مقترحات مختلفة يطرحها الغرب». وما رشح من التقييمات الإسرائيلية بعد زيارة بينيت، أن بوتين كعادته عقلاني وعملي ويعرف تماما ما يريد.
مرسال في مسار هامشي
يبدو أن الحل الروسي المطروح يشمل النقاط التالية: أولا حياد أوكرانيا وعدم انضمامها لحلف «ناتو» بضمانات قوية، ثانيا: تنازل أوكرانيا عن القرم والمناطق الانفصالية، وثالثا، ضمانات بعدم وجود أسلحة قد تهدد روسيا. وإذا لم توافق أوكرانيا على هذه الشروط، فالحرب ستدخل مرحلة تصعيد مختلفة ومدمرة. روسيا تنتظر الجواب في مفاوضات بيلاروسيا وليس من خلال «وساطة» بينيت، خاصة وأنه من الأسهل على أوكرانيا أن تبدي مرونة في غرفة مفاوضات مغلقة، وليس بتنسيق مع الغرب، فهي بحاجة لدعم الغرب لتعزيز صمودها وليس للخضوع للشروط الروسية.
بينيت هو مرسال في مسار هامشي مقارنة بالاتصالات الجدية الجارية في بيلاروسيا، التي قدم فيها الوفد الروسي مقترحاته للحل، والتي أثارت الرعب عند زيلينسكي، ما دعاه الى الاستنجاد ببينيت لعله يأتي بأفضل منها. ولكن الرسائل، التي حمّلها بوتين لبينيت لم تكن مختلفة، وقد نقلت إلى الطرف الأوكراني بانتظار الجواب. ومن اللافت للانتباه أن إسرائيل الرسمية تدعي بأن «الكرة في الملعب الأوكراني» ما يعني أنها ترى أن المقترحات الروسية معقولة ويمكن التعامل معها بجدية.
لقد أُغرم بينيت بدوره الجديد، فهو يمنحه مكانة دولية وداخلية لم يحلم بها، وأكثر ما يهمه، أن يكون ندا لنتنياهو، الذي يسعى دائما إلى تقزيمه والاستهتار بقدراته وبمستواه وبأدائه. كما أن هذا التحرك الدولي رفع من شعبيته، وأعاد الحياة لحزبه المحتضر، وزاد من فرص بناء القوة اليمينية المركزية، التي يسعى إليها ويسعى إلى أن تكون تحت قيادته هو. لقد واجه بينيت انتقادات داخلية لاذعة لعدم اتخاذه موقفا بشأن الحرب، وانتقده كذلك قادة أوكرانيون، بينهم الرئيس زيلينسكي نفسه، وقد منحته اتصالاته الدولية مخرجا للقول بأنه يقوم بالوساطة ولا يستطيع أن يعلن انحيازه لأوكرانيا ضد روسيا، مع أن الكل يعرف أن السبب الحقيقي لعدم اتخاذه موقفا صريحا هو الحفاظ على «حرية الحركة» في الأجواء السورية، والخشية من إثارة الدب الروسي الرابض هناك. كما يحاول بينيت الاستفادة من الموقف الروسي الجديد بشأن الاتفاق النووي، واشتراط التوقيع عليه بعدم سريان مفعول العقوبات الدولية على العلاقات المباشرة بين روسيا وإيران، ما يعطل الاتفاق حاليا، وهذا ما تريده إسرائيل وتسعى إليه. مفارقة التقاء المصالح بين روسيا وإسرائيل مقابل التقاء المصالح بين أمريكا وإيران، ووساطة بينيت هي من عجائب الرجات القوية التي تحدثها الهزة الأوكرانية وسنرى الكثير مثلها في المرحلة المقبلة.