إبراهيم أبراش - النجاح الإخباري - انطلاقا من القاعدة السياسية التي تقول بأن الدول الكبرى لا تُفصح عن كامل أهدافها الاستراتيجية وخصوصا في وقت الحرب، فإن كل ما تقول به روسيا لتبرير غزوها لأوكرانيا وما يقول به الغرب لتبرير تجييشه وحشده لمواجهة الغزو الروسي لا يعبر إلا عن جزء من الحقيقة أو الجزء الذي يضفي طابعا أخلاقا وشرعيا على سلوكهم، فيما الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، وعندما تأخذ الحرب بُعدا دوليا وتستقطب اهتمام كل الدول ووسائل إعلامها ومحلليها السياسيين تزداد القضية تعقيدا وغموضا وتصبح تداعيات الحرب والخوف من مآلاتها و خصوصا عند الحديث عن السلاح النووي أكثر أهمية و جذبا للاهتمام من الأسباب الحقيقية للحرب التي تتوارى خلف البروباغندا الإعلامية والمشاهد الإنسانية المؤلمة لضحايا الحرب.
أسباب الحرب في أوكرانيا عديدة ومتشابكة، يتداخل فيها الماضي مع الحاضر، السياسة مع الاقتصاد، العوامل المحلية مع التأثيرات الدولية. هناك ما له علاقة بخلافات حدودية بين روسيا وأوكرانيا وأخرى لها علاقة بخلافات عِرقية تتغذى من تجربة تاريخية تعود لمرحلة ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وأخرى لها علاقة بتخوفات أمنية روسية من توسع حلف الأطلسي ليضم أوكرانيا ومرابطة قواته وصواريخه النووية على الحدود الروسية، وهي تخوفات مشروعة لأن بقاء حلف الأطلسي أو النيتو وتوسعه بالرغم من انهيار حلف وارسو مع انهيار المعسكر الاشتراكي ليس له تفسير إلا أن الغرب يهيئ نفسه لمواجهة عدو قائم أو محتَمَل والعدو في هذه الحالة هو روسيا والصين، وفي المقابل هناك تخوفات أوروبية وأمريكية من نوايا روسية بالتوسع وإعادة ضم دول كانت تابعة للاتحاد السوفيتي سابقاً وما جرى مع جورجيا والقرم يعزز هذه التخوفات الغربية.
لكن خلف كل ما يُقال يكمن التنافس الاستراتيجي الاقتصادي والعسكري بين روسيا والصين من جهة و الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلفائهم من ناحية أخرى، وتوترات بين روسيا والغرب عموماً تراكمت طوال العقود الثلاثة الأخيرة، فالاقتصاد والتطلع للهيمنة على الممرات التجارية والأسواق والمواد الخام هو المحرك الرئيس لهذه الحرب، لذا، فإن ما هو مُعلن وما يجري على الجبهة الأوكرانية هو الشجرة التي تخفي الغابة وستكون أوكرانيا ضحية هذا الصراع.
انطلاقا مما سبق يمكن تفسير شدة ردة الفعل الغربية. فقبل بدء الحرب كان المعسكر الغربي ضعيفاً وفي حالة تفكك وخصوصاً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والخلافات الأمريكية الغربية في عهد الرئيس الأمريكي ترامب ولكن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد التحالف الغربي تماسكه وربما للمرة الأولى بعد نهاية الحرب الباردة يظهر فيه التحالف الغربي بهذا التماسك ولو شكليا، وإلى الآن يبدو الغرب متماسكاً في مواجهة روسيا، وما كان موقف الغرب ليكون بهذا الشكل لو لم تكن هناك تهديدات حقيقية يتخوف منها الغرب وخصوصاً أمريكا التي تعرف أن زمن سيطرتها الأحادية على العالم قد انتهت وان هناك منافسين جُدد.
إن كان من السابق لأوانه التنبؤ بمجريات الصراع إلا أنه حتى مع توقف الحرب العسكرية الرسمية والمباشرة في أوكرانيا فإن الغرب سيعمل على استنزاف روسيا داخليا وبمناوشات حدودية أو داخل أوكرانيا، وستستمر حرب اقتصادية تجارية سيبرانية عالمية ستؤثر على كل دول العالم وستؤسِس لنظام دولي جديد تسوده حالة توتر وعدم استقرار وستندلع حروب أهلية في أكثر من دولة ومنطقة في العالم.
وفي اعتقادنا أن نهاية الأزمة لن تكون ربحاً خالصاً لأوكرانيا والغرب بالرغم من حالة الحشد والتجييش الغربي كما لن تكون ربحاً خالصاً لروسيا بالرغم من امتلاكها السلاح النووي والفيتو في مجلس الأمن، بل سيتم التوصل لتفاهمات حل وسط.
والسؤال الذي يفرض نفسه هل ستتطور الأمور إلى حرب عالمية ثالثة؟ في الإجابة عن هذا السؤال يجب الأخذ بعين الاعتبار أن أي حديث عن حرب عالمية ثالثة يجب أن يستبعد نمط الحربين العالميتين السابقتين، قد يصح تسميتها بحرب ثالثة من حيث عدد الدول المشاركة فيها والحرب الدائرة الآن ليس بين روسيا وأوكرانيا فقط بل بين روسيا وحلف النيتو بكامله وإن كان هذا الأخير يُقاتل حتى الآن عن بُعد وليس على أراضي دوله، ولكن دون ذلك ستكون الحرب العالمية الأولى في ظل عالم معولم أو العولمة التي حولت أو سعت لتحويل العالم لقرية كونية تقوم على الاعتمادية المتبادلة وتَدَاخُل العلاقات والمصالح والاقتصاد ، ومن حيث نوع الأسلحة المتوفرة عند الأطراف المتحاربة، وفي اعتقادنا أن روسيا لهذا السبب لا تسعى لتوسيع نطاق الحرب خارج أوكرانيا وأوروبا أيضاً لا تريد ذلك، أمريكا الدولة الوحيدة المعنية بتوسيع مجال الحرب لتكون عالمية لأنها بعيدة عن ميدان الحرب التي لا تجري على أراضيها، ومن مصلحة أمريكا إضعاف روسيا وإضعاف أوروبا. وحتى إن تم حصر ميدان الحرب العسكرية في حدود روسيا وأوكرانيا فإن حرباً عالمية ثالثة بدأت بالفعل ولكنها حرباً اقتصادية تجارية ومالية، وحرباً أمنية وسيبرانية ونفسية ودعائية.
تطور الأحداث يرتبط أيضاً بموقف الصين التي إلى الآن تقف محايدة بالرغم من الاتفاقات الاستراتيجية بينها وبين روسيا وهي تراقب بحذر مجريات الأمور، وإن بقيت على الحياد ولم تتورط به أو تستغله لشن حرب لاحتلال تايوان فستقل احتمالات الحرب العالمية الشاملة وستكون الصين الفائز الأكبر من الحرب، أما إن دخلت الصين الحرب إلى جانب روسيا أو غزت تايوان فهذا قد يجر الهند وكوريا الشمالية للتحرك وإن شارك هؤلاء في الحرب فستشارك فيها كوريا الجنوبية وأستراليا وباكستان الخ .
أما بالنسبة للتداعيات الإقليمية، فمنها ما ظهر منذ اليوم الأول للحرب من خلال التخوفات من الأضرار الاقتصادية التي ستتعرض لها الدول الصغيرة ومنها العربية التي تعتمد في غذائها على القمح الروسي والأوكراني كما أن الأضرار ستصيب قطاعات أخرى كالسياحة والخدمات والطاقة، وإن طال أمد الحرب ستجد بعض الدول نفسها مضطرة لاتخاذ مواقف لمناصرة هذا الطرف أو ذاك مما سيؤدي لردود فعل معادية من الطرف الثاني ، وهذا الأمر ينطبق على الدول العربية، أما إسرائيل فقد حددت موقفها بانحيازها للغرب حليفها الاستراتيجي الأول والدائم دون أن تتخذ مواقف عدائية صارخة تجاه روسيا.