أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - عرفت إسرائيل كيف تستغل غالبية الأزمات الدولية بجدارة، فمع كل أزمة أو حرب أو نزاع تبدأ إسرائيل حساباتها الهادئة: كيف يمكن أن يكون خراج أي صراع يقع في أرضها.
وقد حصل ذلك خلال العقود الماضية آخرها حين قفزت إسرائيل نحو الاضطراب الذي حدث في الإقليم العربي وما سمي ربيعه ليصبح ربحاً صافياً في جيبها، ليس فقط لجهة إضعاف كل الدول العربية أمامها بل لجهة تمكنها من تسعير الصراع السني الشيعي وإحداث هذا القدر من الفزع لدى الدول السنية لتجد نفسها تحت المظلة الإسرائيلية وينتهي «الربيع» بأن تصبح دولة طبيعية في المنطقة بل ودولة حماية.
هذه المرة ومع التصعيد ونذر الحرب على الحدود الأوكرانية يبدو أن الأمر مختلف. فالقراءات التي تقدم في إسرائيل سواء من قبل الكتاب أو الخبراء الاستراتيجيين لعلها هذه المرة لا تجد فرصة يمكن لتل أبيب استغلالها، بل إن التقديرات أكثر تشاؤماً إذ تشير إلى أن إسرائيل ربما ستكون أحد الخاسرين في هذه الحرب إن اندلعت، بل وحتى قبل أن تندلع يطغى البعد التشاؤمي على ما ستكون عليه الاحتمالات وموقع وموقف إسرائيل.
هذه المرة اكتشفت إسرائيل أن قضيتها التي أشغلت الكون بها لعقدين ماضيين وهي الملف النووي الإيراني ومحاصرة إيران ومعاقبتها هي قضية هامشية أمام قضايا عالمية، قضية صغيرة لا تمس الأمن الدولي مقارنة بتهديدات خطيرة كالتي تمثلها التدريبات الروسية على الأسلحة النووية أو حتى زحف جيوش روسيا غربا والتي تضع إسرائيل في مكانها وحجمها الطبيعي.
عندما يتم تحريك قوات في أوروبا يبدو الشرق الأوسط برمته بما فيه تل أبيب وادعاءاتها قضايا هامشية جدا وسط قارة تشكل قلب الكون، وإذا ما تحرك فيها السلاح تستدعي الذاكرة حروباً عالمية ليست أقل من إبادة.
خسارات إسرائيل التي يشار لها وهي انشغال الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية التي ظهرت فجأة. وبينما كانت واشنطن تدير حرباً باردة مع بكين جاءت الأزمة الأوكرانية لتشكل عاملاً من عوامل الضغط على واشنطن وتصب في صالح إيران حين تسعى الولايات المتحدة لتسوية هذا الملف بأي ثمن كما يتوقع الإسرائيليون للتفرغ لمتابعة ما يحدث على الجهة الشرقية من المحيط ما يعني التسريع بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما فعلت تل أبيب كل ما بوسعها للحيلولة دونه وأقامت الدنيا ولم تقعدها لسنوات باعتبارها القضية الدولية الأولى تعرف الآن أن العالم سيسارع لإنهاء الاتفاق الإيراني وهو ما أعلنه وزير الخارجية الفرنسي بالأمس بأن اتفاقاً مع إيران سيكون الأسبوع المقبل وهذا التقدير عممته الخارجية الإسرائيلية على سفاراتها.
وإن كانت هذه الخسارة متوقعة فإن للتصعيد على الحدود الروسية ما هو أبعد. إذ لم تتوقع تل أبيب أن تجد نفسها في معادلة بهذه الحدة فدائماً ما كانت تصطف مع طرف ضد آخر وتعرف كيف تدبر أمورها وتجني أرباحها دون أن تخسر نقطة دم واحدة.
هذه المرة لن يسعف كل الدهاء الإسرائيلي تل أبيب من الإفلات من موقف تحاول تجنبه إذا تصاعدت الأمور بين موسكو وكييف، وواضح أن أطراف الأزمة جميعاً لم تجد حتى اللحظة حلاً لنزع فتيلها.
على إسرائيل أن تمشي بين حبات المطر وألا تبتل، هكذا قال أحد الخبراء وتلك كانت سياسة إسرائيلية عندما كانت مضطرة إلى أن تظهر حياداً علنياً تجاه صراعات ما، أما في السر فالأمر مختلف. لكن هذه المرة لا تملك إسرائيل ترف الحياد وتبدو خياراتها شديدة الصعوبة. فالتصعيد ليس بين روسيا وأوكرانيا بل بين موسكو وواشنطن بشكل مباشر، فالأمر الأوكراني يتعلق باقتراب القوة الأميركية من حدود روسيا ووضعها تحت الخاصرة الروسية وهو ما يشكل خطوطاً حمراً لموسكو.
أين ستكون إسرائيل؟ تلك معضلتها، فلا هي قادرة على أن تكون إلى جانب موسكو ولا إلى جانب واشنطن ضد موسكو، ولن تتمكن من أن تكون محايدة في هذه الأزمة إذا ما اندلعت الحرب وبدأ فرض عقوبات أميركية ضد روسيا.
أن تكون إلى جانب روسيا فهذا انتحار لن تقدر عليه إسرائيل لأنه يعني صداماً مع الحليف الاستراتيجي وهو ما لا يمكن تصوره، وأن تكون ضد موسكو فهو لا يقل في خسائره فداحة. فروسيا ليست دولة هامشية بل عملت إسرائيل في عصر نتنياهو على تعزيز العلاقة معها إلى أبعد الحدود، ولأن موسكو أصبحت في سورية على الحدود الإسرائيلية تنسق معها الضربات على سورية وتلجم إيران من أن ترد من سورية وتتحكم بالأسلحة السورية كان هذا ذخراً استراتيجياً لإسرائيل لن تغامر بالتفريط به لأنه شديد الكلفة.
لو اصطفت إسرائيل مع الولايات المتحدة ستكون خسارتها كبيرة في سورية، وهو ما أكدته موسكو في رسالة شديدة الوضوح حين حلقت طائراتها على الحدود السورية الإسرائيلية بشكل مشترك مع سلاح الجو السوري، ما يحمل نوعا من التحذير أو حتى التهديد فيما لو فكرت إسرائيل بأن تكون نقيضا لها سواء في الحرب إن اندلعت أو العقوبات إن تم فرضها، بل ويمكن أن تذهب موسكو أبعد من ذلك في دعم إيران الخصم القوي لإسرائيل.
وربما كان ما أظهره حزب الله اللبناني قبل أيام من كشف صواريخ دفاعية مضادة للطيران أو إرسال طائرة مسيرة لم تتمكن القوة والتكنولوجيا الإسرائيلية من اعتراضها رغم دخولها عمق سبعين كيلومترا ربما كان رسالة تضاف إلى جملة الرسائل الروسية ارتباطاً بنفس المحور.
تحاول إسرائيل إظهار الحياد، فالمعركة أكبر كثيراً من موقف تتخذه ولأول مرة تتمنى أن تنزوي على عكس ما تفعله باستمرار، ولكن هذا غير متوفر لأن هناك تعاونا اقتصاديا بين روسيا وإسرائيل وأيضاً أشكال أخرى من العلاقات.
ففي اللحظة التي تفتح فيها فوهات المدافع ستبدأ عقوبات على روسيا وسيكون على إسرائيل أن تمتثل للعقوبات الأميركية وإن نفذت ستدفع الثمن الروسي، وهي تعرف ماذا يعني غضب سيد الكرملين وإن لم تلتزم ستدفع الثمن الأميركي، هذه المرة لن تفلت إسرائيل حتى لو استدعت كل خبراتها في الدهاء ...!