عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - ساذج من يصدّق أن للغرب قلبا يحنو على أوكرانيا، ذلك أنه إذا وُجد مثل هذا القلب فقد أكله الصدأ أسوة بكل المعادن القاسية القابلة للصدأ، وفي الغالب فإن القلوب تضمر وتتآكل بسبب فعل قانون «الإهمال والاستعمال» الذي نعرفه في العلوم الإحيائية، وكذلك الضمائر.
منذ عدة شهور وماكينة الغرب الإعلامية تعيد تشغيل نفس الأسطوانة، حول اجتياح وشيك، وحول حربٍ على الأبواب لن تبقي ولن تذر، وحول الخطر الذي بات «يهدد» أوكرانيا، بل وكل أوروبا، ومصالح كل الغرب في المعمورة!
دعونا نحاول ـ رغم كل الصعوبات ـ أن نضع هذه الحرب المزعومة في سياقاتها المنطقية أو العقلانية بعيداً عن الضجيج الإعلامي الغربي المحموم.
أولاً، وقبل كل شيء فإن الغرب ليس له لا قلب ولا ضمير لأن هذا القلب وهذا الضمير بالذات إمّا هو غائب، أو أنه مستتر، ونحن الشعب الفلسطيني بالذات لا نحتاج إلى من يدلنا على هذا الضمير، أو يشرح لنا «صحوته» المباغتة لإنقاذ أوكرانيا، بعد أن نام أكثر من سبعة عقود، وما زال يغالبه النعاس، ولا يكاد يفتح عينيه بعد، ليرى كيف نشأت إسرائيل وكيف اقتلعت ودمرت وطهّرت وطردت وشرّدت واعتدت واستوطنت، وما زال قلب الغرب لا يقوى على النبض، وما زال ضمير هذا الغرب نائماً، وغائباً ومختفياً عن الأنظار.
وضمير هذا الغرب وقلبه غاب عن كل حقوق الشعوب في هذا العالم، في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ولم يزل غائباً عن كل قضايا العدل وحقوق الشعوب، ولا يتباكى على حقوق الإنسان والحريات إلّا عندما يفقد قدراته على السلب والنهب، أو عندما يشعر بتهديد مصالحه، أو قيمه أو مكانته وأدواره.
روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تريد أن تحمي مصالحها القومية من أن يُصبح «حلف الناتو» على حدودها المباشرة.
السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: لماذا أصلاً ما زال هذا الحلف قائماً طالما أن «الحرب الباردة» انتهت «بانتصار الغرب»؟، وطالما أن «حلف وارسو» انتهى وغاب عن الوجود؟
لا أحد في الغرب يسأل هذا السؤال، ولا أحد مستعد أن يسأله على ما يبدو!
إذا كان الغرب لا يريد الاستفزاز، ولا يريد الحرب فلماذا لا يُطمئن روسيا على هذا المطلب العادل كل العدالة؟
كل ما تريده روسيا هو أن لا يقيم الغرب قواعد عسكرية في أوكرانيا، وذلك لأن انضمام الأخيرة إلى «حلف الناتو» يعني أن إمكانية كهذه تصبح «واقعية»، بل و»قانونية»، أيضاً.
لو كان الغرب لا يريد لهذه الحرب أن تقع لأمكنه منعها، وتفاداها وعمل على وأدها في مهدها.
الحقيقة التي لا يريد الغرب أن يعترف بها هي أنه حرّض النظام في أوكرانيا لكي يلعب هذا الدور الابتزازي والاستفزازي على حدٍ سواء.
والحقيقة الأخرى هي أن هذا النظام لا يختلف عن الأنظمة التي يقيمها الغرب لكي تلعب هذه الأدوار، بل هو رأس حربةٍ للغرب ولإسرائيل ومتورط وغارق حتى أعلى أُذنيه في هذا الدور كوكيل لمصالح الغرب والصهيونية العالمية، وهو حليف خاص ومقرب من عتاة اليمين في إسرائيل.
الحرب التي يسعى لها الغرب في أوكرانيا [الغرب وليس روسيا] تهدف إلى توريط روسيا لكي تكون تحت «رحمة» عقوبات ستحدّ كثيراً من تطور الاقتصاد الروسي في مجالات حيوية مهمة، وهو ـ أي الغرب ـ يراهن على حرب استنزاف طويلة تقوم بها عصابات اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا، والذي يُعدّ نفسه لهذا الدور، ويحظى بالتأييد الكامل من الغرب، ومن بعض القطاعات العسكرية الأوكرانية تحضيراً وتمهيداً لهذا الدور.
الرئيس بوتين يشكل في الواقع ندّاً قوياً للغرب كله، وليس للولايات المتحدة فقط. وأوروبا كلها مجتمعة لا تشكل ندّاً عسكرياً لموسكو، ولو كان الأمر كذلك ـ أي لو كانت أوروبا ندّاً عسكرياً لروسيا لما احتاجت أن تسير وراء الولايات المتحدة كظلها في كل المخططات الكونية الأميركية.
هذا الندّ القوي هو الاستهداف الحقيقي للولايات المتحدة وظلها الغربي، إضافة إلى كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا، وهناك في الواقع من يؤيد روسيا في محيطها القريب إضافة إلى الصين وكوريا الشمالية.
أغلب الظن أن القضية تتلخص في مُخرجات النظام العالمي الجديد.
لا سبيل إلى بقاء هيمنة الولايات المتحدة على هذا النظام إلّا بكسر الحلقة الروسية أو الصينية، وذلك لأن كسر الحلقة الكورية الشمالية ـ على صعوبته البالغة ـ لا يمكنه أن يغير جوهرياً في هذه المعادلة.
إنهم يحاولون توريط روسيا في حرب هي في الواقع مجرد معركة، ولا يمكن أن ترقى لمستوى الحرب، لأن الغرب نفسه يعلن أنه لن «يتورّط» بها، وأن كل ما سيفعله هو العقوبات القاسية ضد روسيا.
فحتى لو قامت روسيا بغزو أوكرانيا، وأسقطت النظام السياسي فيها، فإن الغرب لن يتحرك عسكرياً ضد روسيا؟!
ما معنى هذا الموقف؟
المعنى واضح؛ الغرب سيضحي بهذا النظام الذيل، وسيضحي بالدولة الأوكرانية والشعب الأوكراني، أو بجزء منه إذا ما «تورّطت» روسيا في أوكرانيا، علّه سيسهّل على الغرب حينها كسر الحلقة الروسية.
هذه هي القصة الحقيقية للصراخ الغربي والتباكي الأميركي على أوكرانيا، ولا يوجد في الواقع قصة أخرى.
ولهذا فليس هناك حرب ولا ما يحزنون، وبوتين يعرف خطط الغرب ومخططاته، وإذا ما كان ممكناً أن تقوم معركة محدودة في أوكرانيا فإن روسيا ستحسمها دون حرب حقيقية وستكون الحسابات الغربية كلها مغلوطة تماماً لأن روسيا بكل بساطة ستخرج من هذه الأزمة بإحدى الحسنيين: إما تراجع الغرب عن التوسع شرقاً أي توسع «الناتو»، أو تقسيم أوكرانيا، وفي الحالتين سيكون الغرب قد خسر الحرب أو المعركة أو المحاولة، وستكون روسيا قد فرضت نفسها على الغرب كندٍّ قوي له مقعد دائم في أقطاب العالم الجديد ونظامه الجديد.
أما الصين فقد ضمنت مقعدها الدائم منذ سنوات، وهي تنتظر الإقرار بالترتيبات الجديدة على أقل من مهلها، ولا تبدو على عجلة من أمور هذه الترتيبات.
الذي يجري يا سادة هو ترتيبات ما قبل ترسيم معالم النظام الدولي الجديد، وحصة الرئيس الروسي فيها ليست أقل من حدود الاتحاد السوفييتي السابق إلّا قليلاً وبالكاد.
والحرب التي يتحدث عنها الغرب مجرّد وهم، لأن حصة روسيا باتت مضمونة، ولم يتبق إلّا الترسيم، وإذا ما احتاج الأمر شيئاً من القوة العسكرية فهي مجرد معركة صغيرة ليس أكثر.