وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - باحث إسرائيلي شاب نقل «مجزرة الطنطورة» من التاريخ الشفهي إلى التاريخ المدوّن: أبو خالد، أبو سعيد، أبو جميل يمثلون «شاهد إثبات»؛ وبنتس فريدان، مردخاي سولكر، أبراهام عمير في دور «شاهد نفي».
يقول شاهد الإثبات أبو خالد: نقلوا الشباب إلى حواكير الصبار، وهناك قتلوهم.
يقول شاهد الإثبات أبو سعيد: صفـّوا الشباب حسب طول قاماتهم.. وبدؤوا في حصدهم بالرصاص.
يقول شاهد الإثبات أبو جميل: رأيت بعيني جندياً يهودياً يجوب الأزقة، ويطلق الرصاص على الشباب.
ماذا يقول القتلة، في دور «شاهد النفي»، أو طالب «الظروف المخففة»؟
يقول بنتس فريدان: كانت حالة حرب، وفي كل حرب يموت الناس قتلاً.
يقول مردخاي سولكر: كلاّ، أنا لست قاتلاً، وليس هناك ما أتستر عليه.
يقول أبراهام عمير: لم أصادف عربياً لا يبالغ لسانه في رواية ما شاهدت عيناه.
تحت قوس المحكمة تترافع الضحية ضد الجاني، فإذا لم يعترف المشتبه به بجريمته، أو لم تكن بينات الضحية دامغة.. يفلت المجرم، أو تغلق القضية.
المسألة أن الصلح التاريخي بين شعبين، في دور الضحية والجاني، لا يستقيم دون صلح الصهيونية مع التاريخ، بما في ذلك نقل التاريخ الشفهي لجرائم الحركة الصهيونية من على ألسنة الضحايا، إلى صفحات التاريخ المدوّن.. بأقلام مؤرخين أو باحثين شباب ينتمون إلى الشعب الظالم.
هذا العام، فقط، نجح وزير المعارف الإسرائيلي «اليساري» يوسي ساريد، في إدخال تعديل جزئي على بعض فصول رواية الحرب، كما جرت في مجزرة دير ياسين.
ستضاف «مجزرة الطنطورة» التي راح ضحيتها 200 إنسان فلسطيني إلى تعديل جزئي لاحق على رواية الجاني لما صنعت يداه.
مع ذلك، منذ خمسين عاماً تحاول إسرائيل تبرئة ذمتها من جريمة حرب، هي عبارة عن «ترانسفير» ديموغرافي، لسكان قريتي «إقرث» و»كفر برعم».. محكمة العدل العليا الإسرائيلية أصدرت أحكاماً ملزمة لحكومات إسرائيلية متلاحقة، بإعادة مهجّري القريتين إليهما.
حتى الآن لم يتم تصحيح جريمة الحرب هذه، على الرغم من أن وزراء من الليكود (منهم وزير العدل تساحي هنغبي) ووزراء من «إسرائيل واحدة» منهم يوسي بيلين، طالبوا بتنفيذ حكم المحكمة الإسرائيلية لصالح سكان قريتي «إقرث» و»كفر برعم».
ماذا فعل هؤلاء الذين يسمونهم في إسرائيل «مؤرخين جدداً»؟
لقد قوّضوا الركيزة الأساسية لرواية الحرب الإسرائيلية. قالوا: لم تكن هناك «أقلية» من الجنود اليهود جابهت «أكثرية» من الجنود العرب، والقرويين الفلسطينيين المسلحين.
والمعنى: لم تكن هناك بطولة حرب بل كانت هناك جرائم حرب اقترفها الطرف القوي بحق الطرف الضعيف: أرضاً، وبشراً.. وعمراناً.
لكن، بينما تذهب إسرائىل إلى سلام حدودي مع سورية، يطالب حاخام يهودي كبير بدمشق ذاتها، لأنها جزء من الوعد الإلهي لليهود، ويتحدث سماسرة الأرض عن مئات الدونمات اليهودية بين دمشق والجولان.. كانت مسجلة كأملاك يهودية قبل عشرات السنوات من قيام إسرائيل. .. وعندما تذهب إسرائيل إلى «صلح تاريخي» مع الشعب الفلسطيني، يتحدث بعض اليهود عن اقتسام الضفة الغربية مع الفلسطينيين، وعن «قدس إسرائيلية وموحدة».
بعد افتضاح «مجزرة الطنطورة»، لا يزالون في إسرائيل يربطون شروط السلام مع سورية ولبنان باستعادة جسم أو جثمان الطيار الإسرائيلي رون آراد، دون أن تقدم إسرائيل للفلسطينيين (وللسوريين والمصريين) كشفاً بأسماء قتلاهم، أو حصراً بأسماء المدفونين في «مقابر الأرقام».
هناك نوعان من التشريح يفضيان إلى الحقيقة: تشريح جثة الميت والقتيل لمعرفة أسباب الموت، وتشريح التاريخ لمعرفة الحقيقة من الكذب.
ما نخشاه، هو أن جرائم القتل، الفردية والجماعية، تصبح مثل «الوثائق السرية» التي يمكن الكشف عنها بعد نصف قرن، دون صدور حكم قضائي، باعتبار أن مرور الزمن يصفح عن الجريمة والمجرمين.
ماذا يتطلب «الصلح التاريخي» بين الشعبين غير الصلح مع حقائق التاريخ؟
هناك حد بين النسيان وبين الغفران. لا يمكن دفن الذاكرة، ولا إحالة التاريخ الشفوي لجرائم الحرب إلى النسيان.. إلا بعد تدوينها!
أبو علي، أبو سعيد، أبو جميل رؤوا ورووا، والثلاثة: فريدان، سولكر، عمير فعلوا ويحاولون الإنكار، أو طلب الظروف التخفيفية. لا توجد ظروف تخفيفية لجرائم الحرب النازية ضد اليهود، فلماذا يتمتع اليهود بظروف تخفيفية؟
ينظرون إلى أيدي الآخرين «الملطخة بالدماء»، وينظرون إلى أيديهم الملطخة بالدماء.. وفي الحالتين يحاولون كتابة التاريخ على هواهم، والأمن وفق مصالحهم، والحقوق وفق خرافاتهم، والحقائق وفق رواياتهم.
هناك جثث ضحايا حرب ظالمة في فلسطين؛ ولكن فلسطين ليست جثة: تلك هي الجريمة، وهذا هو العقاب.