وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - «حفرة بطول 35 متراً وبعرض 4 أمتار» تحولت الى قبر جماعي دفن بداخله ضحايا مذبحة الطنطورة، الذين يتراوح عددهم بين 90 – 200 ضحية، وجرى إخفاء القبر بموقف مسفلت للسيارات بني فوقه. وعلى أطلال الطنطورة المدمرة أقيم نصب تذكاري لقتلى لواء اليكسندروني الذي احتل الطنطورة وأماكن أخرى.. هكذا يمجد القتلة، ويُمحى الضحايا بالقتل والتهجير، وبإخفاء الجثث، وتُمحى قرية الصيادين الجميلة. ويقترن الفعل الوحشي بممارسة الترهيب والعزل والعقاب وبحرب نفسية ضد كل إسرائيلي ومن جنسيات أخرى يحاول الكشف عن الحقيقة المرة، أو يقدم رواية غير الرواية الرسمية الإسرائيلية. كما حدث مع الطالب الإسرائيلي ثيودور كاتس في جامعة حيفا، الذي وثق مجزرة الطنطورة عام 1948، باستخدام منهج التأريخ الشفوي حيث جمع شهادات من عشرين فلسطينياً من سكان الطنطورة سابقاً، وعشرين جندياً اسرائيلياً شاركوا في احتلال الطنطورة وارتكاب المجزرة او كانوا شهوداً عليها. اعترف الجنود في شهاداتهم بمشاركتهم في المجزرة، ولكن عندما اعتمدت رسالة الماجستير ونشرت بدأ هجوم المؤسسة الإسرائيلية المضاد وكان من نتيجته تراجع الجنود عن شهاداتهم ومقاضاة الطالب كاتس بتهمة تزوير المعلومات. ولم تكتف المؤسسة بذلك بل واصلت الضغط على كاتس ما دفعه للاعتذار امام المحكمة، غير أنه تراجع عن اعتذاره واستأنف لدى المحكمة، التي رفضت بدورها الدعوة المقدمة منه، وانتصرت جامعة حيفا للمحكمة وللجنود بسحب شهادة الماجستير عقاباً لكاتس، هكذا تضافرت مواقف المؤسسة الأمنية مع المؤسسة القضائية والمؤسسة التعليمية والإعلام في تدمير الرواية المخالفة للرواية الرسمية ولسياسة إنكار التطهير العرقي والنكبة التي ألحقتها بالشعب الفلسطيني .
اعتقدت الدوائر الإسرائيلية انها أسدلت الستارة على فصل المحو الذي يشمل الرواية والذاكرة والكرامة والوقائع الفلسطينية، ذلك المحو الذي تمارسه بعقلية المستعمِر المتغطرس، المدعوم بغطاء سياسي دولي، فرط القائمون عليه بالقانون الدولي شر تفريط. بيد أن عرض فيلم «طنطورة»، الوثائقي للمخرج الإسرائيلي ألون شفارتس، قلب السحر على الساحر وهو يعيد تأكيد الشهادات التي جمعها كاتس في أطروحته وغيرها من الشهادات، و»قلب الصورة التي رُسِخت لدى الجمهور الإسرائيلي في أعقاب دعوى القذف والتشهير واعتذار كاتس» بحسب الباحث الإسرائيلي آدم راز. اعترف جنود في العقد التاسع بمشاركتهم في المذبحة المروعة.
يقول الجندي حاييم ليفين في شهادته، «إن أحد الجنود توجه إلى مجموعة مكونة من 15 – 20 أسيرا «وقتلهم جميعا». وعندما سئل عن سبب قتلهم، أجابه بأنه «ليس لديك فكرة كم قتلوا».
وتحدث الجندي ميخا فيتكين، عن ضابط «أصبح مسؤولاً كبيراً في وزارة الدفاع، قتل عربياً تلو الآخر» بمسدسه، لأنهم رفضوا الاعتراف بالمكان الذي خبؤوا فيه الأسلحة.
وأشار جندي آخر بشكل آخر الى أسلوب القتل بالبراميل: لقد أدخلوهم في براميل وأطلقوا النار على البراميل، أذكر الدماء كانت تنساب من الخزوق التي أحدثها الرصاص في البراميل «. «.
أما الجندي عميتسور كوهين فقد اعترف بجرائمه قائلا. «كنت قاتلاً. لم آخذ أسرى». وأضاف إنه لو رفع جنود عرب أيديهم، لأطلقت النار عليهم جميعاً. وحول عدد العرب الذين قتلهم قال إنه لم يعدّهم وأضاف: كان بحوزتي رشاش مع 250 رصاصة. هذه شهادات فاجعة قدمها مسنون إسرائيليون في العقد التاسع من أعمارهم، سبق لهم أن خدموا او تطوعوا في جيش «حافظ» على «طهارة» سلاحه. ما حدث في الطنطورة كان من ابشع تجليات التطهير العرقي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني وأسفر عن تدمير ما ينوف عن 530 قرية وتهجير أكثرية المواطنين في مناطق 48 وأسفر عن سرقة أراضيهم ومواردهم وممتلكاتهم. إسرائيل لم تعترف وما زالت لا تعترف بالتطهير ومذابحه والمآسي الإنسانية الناجمة عنه، ولم تحاسب المرتكبين، لا تعترف بوجود مشكلة اللاجئين المهجرين، ولا تعترف بالحقوق التاريخية والمشروعة لعموم الشعب. عدم الاعتراف والانكار يعني عملياً استمرار النكبة والتطهير والقتل والتفكيك والنهب والمعاناة. جيش الامس الذي ارتكب مذبحة الطنطورة وغيرها هو الجيش الذي يواصل القتل والقمع والخنق والحصار وتدمير المنازل في القدس ومناطق ج والاغوار وقرية العراقيب في النقب، هو الجيش الذي يحمي الآن القتلة واللصوص والمعتدين من المستوطنين، يحمي استباحتهم للأرض الفلسطينية ويرعى اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم ومزروعاتهم. وطالما لا تعترف إسرائيل بالمسؤولية عن نكبة شعب، فإنها ستواصل ما بدأت به وتغاضت عنه، وهي تعلن عن ذلك عندما يقول أقطاب حكومة بينيت: لا يوجد حل للصراع مع الفلسطينيين.
وجه الغرابة، ان هذه الدولة تواصل صناعة النكبات الفلسطينية المتلاحقة، وتزدري وترفض كل نقد لسياساتها المتوحشة المتناقضة بالطول وبالعرض مع القانون الدولي وحقوق الانسان، وهي لا تملك إلا وصفة واحدة هي تهمة العداء للسامية، وتعاقب الاسرائيليين اليهود والاميركيين والاوروبيين اليهود اذا ما مارسوا نقداً للجرائم والانتهاكات الإسرائيلية، كما حدث مع الطالب كاتس، وكما حدث مع البروفيسور الإسرائيلي «غولد رايخ» الذي حرم من جائزة إسرائيل لانه وقع على عريضة تدعو الاكاديميين الى مقاطعة الجامعة المقامة على أراض فلسطينية محتلة في مستعمرة ارئيل. حتى وزير الامن الداخلي بارليف لم يسلم من التهديد بعد وصفه لاعتداءات المستوطنين على متضامنين دوليين وإسرائيليين مع المواطنين الفلسطينيين بأنه فعل منظم لجماعة إرهابية، هذا الوزير تلقى تهديدات ويخضع الآن لحراسة مشددة. وزيرة الاعلام الإسرائيلية رصدت 3.5 مليون شخص معادٍ للسامية على وسائل التواصل الاجتماعي، ولاحظت أن العداء للسامية تفاقم بالتزامن مع الحرب على غزة. الوزيرة دمجت نقد جرائم وانتهاكات دولة الاحتلال بنقد الجماعات العنصرية المعادية لليهود في سلة واحدة، وكانت وظيفة الدمج هي الإفلات من المساءلة والمحاسبة والتثبيت على مكانة الضحية ومواصلة صناعة النكبات المتلاحقة للشعب الفلسطيني. لحسن الحظ بدأ الإفلات من الابتزاز، بمواقف شجاعة ورائعة من الممثلة المبدعة ايما واتسون، ومن المحكمة الفدرالية الألمانية، وملكة جمال اليونان بلاستيرا التي انسحبت من المنافسة احتجاجاً على الاحتلال الإسرائيلي، ومقاطعة 20 عرضاً لمهرجان سدني احتجاجاً على الاحتلال، ودعم كلية الحقوق في جامعة نيويورك لمقاطعة إسرائيل. مسلسل الاحتجاج والتضامن المتنامي ضد الاحتلال والعنصرية يتجه نحو الخروج من ابتزاز معاداة السامية، وبخاصة اذا ما ترافق مع خروج الشعب الفلسطيني من مأزقه. بقي سؤال: لماذا لا تبادر منظمات حقوقية فلسطينية بمطالبة «الجنائية الدولية» وجهات الاختصاص القانونية بإجراء تحقيق حول مجزرة الطنطورة، بما في ذلك استخراج رفات الضحايا من تحت موقف السيارات، وإقامة نصب تذكاري للضحايا ومحاسبة المتهمين؟.