أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - لماذا يحن حبر الأقلام إلى جمال عبد الناصر؟ ولماذا تتسمر الذاكرة الجمعية لدى العرب عند زعيم جاء ومضى كحلم داعب كرامتهم ومضى كأصغر الزعماء سناً حينها، وكأن القدر ندم على إهدائنا هذا الهرم الرابع كما وصفه الشاعر الكبير نزار قباني، بعد أكثر من نصف قرن على الغياب، ظل الخالد حاضراً بقوة وبعد مائة وأربعة أعوام على ميلاده ما زالت الأمة تحتفي بهذا اليوم الذي ولد فيه في الخامس عشر من كانون الثاني.
قبل حوالي ثلاثة أشهر، لفت نظري أحد الأصدقاء لكتاب «ذكريات معه» الذي كتبته السيدة «تحية كاظم» زوجة الزعيم جمال عبد الناصر ما يفسح لإطلالة مميزة للبعد الإنساني في شخصية الخالد بعد أن قرأنا كثيراً عن حياته السياسية وحروبه ومعاركه كفارس نادر أنجبته هذه الأمة، وكان محمد حسنين هيكل رفيق درب الرئيس قد غطى الرحلة بكل أمانة ووفاء.
بقيت أتحين الفرصة للكتابة عن ما ومن يستحق الكتابة في سيرة الراحل بالفارق بين بساطة الرئيس الذي لقب «بزعيم الأمة» وبين قادة لم يسجلوا في تاريخهم ما يستحق التوقف عنده ومروا في ذاكرة العرب كسحابة صيف، في حين ظل اسم جمال عبد الناصر حياً وبالتفاصيل بعد كل هذا الغياب يطل من زاوية الحلم وسيظل اسمه مرافقاً لكرامة أمة وجدت نفسها تولد من جديد.
في تاريخ عبد الناصر ثلاث مناسبات تلح على القلم والذاكرة، يوم ميلاده الذي صادف أمس، ويوم الثورة التي غيرت وجه المنطقة في الثالث والعشرين من تموز، ويوم الرحيل الحزين في الثامن والعشرين من أيلول وخريفه المفجع، وبقيت أنتظر أول مناسبة وأعدت قراءة الكتاب ليلة أول من أمس، لأتوقف عند تفاصيل شديدة التواضع لرجل بهذه العظمة.
كان جمال يكره نظام المرافقة، هكذا تقول تحية، كان يقول، «انه نظام خاص بالضباط فقط ولكن الأغلب يعاملونهم كخدم للأسرة ولأن المرافق لا يملك أن يشتكي أو يتظلم أن يترك المنزل، وكان يعتبر أن هذه الطريقة امتهان لكرامة الجندي» هكذا تمكن عبد الناصر من بناء القوات المسلحة منذ بدأ بكرامة الجندي وهو ما يعكس شخصية الرجل البسيطة والطبيعية كابن للشعب.
بعد الثورة بعام، تكتب تحية عندما انتقلوا إلى منزل منشية البكري، «وجدت عساكر الجيش على الباب وعساكر داخل الحديقة وأمام البيت ومدفعين وعددا من البوليس الحربي وفوق البيت مدفعين. فسألت لماذا كل هذه المدافع والعسكر؟ وقيل لي، إن قائد البوليس الحربي حضر في الصباح ورتب كل شيء، وتضيف، في الساعة الواحدة ليلاً جاء جمال وسمعته يطلب إزالة كل هذا وقال، يكفي اثنان من الجيش واثنان من البوليس الحربي».
حول الطعام في البيت والمائدة، بالعادة تكون تلك مادة مهمة للصحافة بعد رحيل أي زعيم نظراً لبذخ موائد الرؤساء والملوك، ولكن تحية تقول، أكلنا كان عاديا وبناء على رغبة جمال الذي كان يقول لها، «إن أولادنا حين يكبرون سيعيشون حياتهم فلا يجدون فرقاً بين معيشتهم، الآن، وفي المستقبل فيكونون سعداء» أي أنه لم يخطط أو يفكر بأن يدخل أي من أبنائه السياسة أو يورثه موقعاً أو منصباً، إذ كتبت زوجته في كتابها عندما كان يشاهد علامات أبنائه المتفوقة في الدراسة كان يقول، «أولادنا يا تحية نورثهم العلم».
أول مرة تركب فيها زوجة الزعيم الطائرة كان ذلك العام 1958 أي بعد خمس سنوات من قيام الثورة. وتنقل عنه أنه كان يقول لها، «إننا لا نركب طائرة واحدة ونترك الأولاد لوحدهم» فقط ركبت الطائرة بعد زيارة ليوغسلافيا بناء على إلحاح زوجة الرئيس تيتو التي أصبحت صديقة العائلة. وفي تلك المقارنة بين زعامات العقود العربية لخمسة عقود كيف أصبحت عائلاتهم تحكم وتتحكم وحولت الأوطان إلى مزارع خاصة.
كان جمال عبد الناصر لا يقبل هدايا إلا من رئيس دولة فقط ويفضل أن تكون رمزية، هكذا تكتب زوجته وقد تم إهداؤه سيارات من الرؤساء والملوك بالأخص العرب وطائرة ومركبا وفرسا من رؤساء الدول الصديقة وكلها سلمها للدولة ولم يترك بعد رحيله إلا السيارة الأوستين السوداء كذلك تم إهداؤه ساعات من الملوك العرب أهداها جميعاً للضباط «وحينها كان يقول لي، «إنهم الضباط الذين خرجوا معي يوم 23 يوليو».
أحضر أحد رجال الأعمال العرب وأصحاب الملايين هدية، هكذا تكتب زوجة الزعيم وكلف صلاح الشاهد كبير الأمناء بتوصيلها للرئيس، وكانت من الحلي الثمينة فردها ورجع بها الشاهد فرجاه رجل الأعمال أن يرسلها مرة ثانية وقال للرئيس، إن الرجل بكى ورجاني، فلم يقبلها ناصر وقال له، أعدها فقال الشاهد، إنها تساوي أكثر من مئة ألف جنيه فرد الرئيس، «لم أقم بالثورة من أجل مال وحلي ومجوهرات، وبإمكاني أن أصدر، غداً، قراراً بمضاعفة مرتبي ولكن ليس هذا ما قمت بالثورة من أجله، اذهب بها لا أريد أن أراها».
عند زواج ابنته هدى، تكتب زوجته، قدم أحد الوزراء هدية من الحلي فرفض الرئيس قبولها، وأيضاً، قدمت لهدى إحدى زميلاتها بالكلية يوم زفافها ساعة مرصعة فلم يقبلها وقال لهدى، إن تردها وتكتب لها خطاباً رقيقاً لتشكرها، أما عن ابنتهم الثانية منى فتكتب أنها نجحت في الثانوية العامة، لم تكن درجاتها تؤهلها للدخول في كلية الاقتصاد التي ترغب بالالتحاق بها فرفض الرئيس أن تدخل ابنته الكلية رغم ترحيب وزير التعليم العالي.
الابن الثاني للزعيم عبد الحكيم التحق بالكلية البحرية ومع غيابه طلبت والدته أن تراه فقال لها عبد الناصر، «بإمكانك أن تزوريه وتقابليه خارج الكلية أسبوعياً كما ترغبين بأن يتم ركن العربية خارج سور الكلية ويأتي عبد الحكيم عشر دقائق في العربية كما يفعل كل أهالي الطلبة» وقد تم فعلاً، تصوروا زوجة الرئيس لا تستطيع دخول الكلية التي يمكن أن تستقبل فيها كسيدة أولى ولكن عبد الناصر لم يقبل أن تكون أفضل من كل أمهات الجنود.
في الديمقراطيات الغربية، يضبط القانون سلوك الزعماء الذين يتصرفون كموظفين لا أكثر ويعيشون على رواتبهم فقط، ينهمك الشباب العرب بإجراء مقارنات حزينة قياساً بحياة الترف والبذخ والفساد لنظمهم التي تعيش حياة منفصلة عن واقع شديد الفقر، لدينا النموذج الذي عاش حياة كالناسك المتعبد في صومعة الوطن ولم تغريه كل المناصب والمجوهرات والأموال، بقي بسيطاً كما هو بل وضع مقياسا للزعامة وعلاقتها بالمال، أعرفتم لماذا تستدعي ذاكرتنا جمال عبد الناصر؟ لأن النموذج النزيه كان كأنه مجرد حلم عابر.
الكتاب إنساني ولكنه مهم، أتمنى على جميع العرب قراءته وخصوصاً الذين يهللون للزعماء الذين جعلوا أوطانهم خرابات وعاشوا كالملوك، لنسأل هل هؤلاء من يليقون بنا أم أن إجابة نزار المبكرة في رثاء الخالد قدمت الإجابة حين قال، «يا جبل الكبرياء .. وآخر قنديل زيت في ليالي الشتاء ... لماذا قبلت المجيء إلينا.... فمثلك كان كثيرا علينا ...!!!!