نابلس - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - ثمة فرق بين قراءة موضوعية لحدث بحجم عدوان غاشم ضد شعب أعزل، او هبة وانتفاضة أو أشكال بطولية من المقاومة، وبين قراءة أحادية الجانب تُسقط الرغبات وتحلق مع المزاج العام. الحركة السياسية وامتداداتها النخبوية في كل المراحل السابقة أسقطت رغباتها، وتوقفت عند لحظات وفترات نهوض وإنجازات ومبادرات رائعة وقَفَلَت عليها بقفل لا يفتح، ولم تتوقف عند التطورات اللاحقة التي انتهت الى انتكاسات وأخطاء كبيرة وعجز. من الضروري التوقف عند كل إنجاز وعنصر قوة من أجل البناء فوقه ومواصلة المراكمة عليه وصولا الى الأهداف، ولا يمكن فصل الإنجاز عن التطور اللاحق، بما في ذلك الانكسار والتراجع.
على سبيل المثال، توقف الإعلام المصري عند عملية اقتحام الجيش المصري البطولية المذهلة لقناة السويس، ولم يأت على ذكر الاختراق الإسرائيلي وما بعده من اتفاق وقف إطلاق النار والمفاوضات التي انتهت باتفاقات كامب ديفيد. وعرَّفْنا نحن الانتفاضة الوطنية الكبرى بسنتها الأولى الحافلة بالإنجاز والإبداع الشعبي، ولم نتوقف عند التحولات اللاحقة لا سيما العسكرة التي حولت مهمة تطوير المواجهة الشعبية الى عصيان مدني ضد الاحتلال، الى سيطرة على المجتمع بأساليب غير ديمقراطية ساهمت في خفض المشاركة الشعبية في الانتفاضة. الشيء نفسه تكرر مع الانتفاضة الثانية التي جرى عسكرتها بسرعة قياسية وأفضت الى نتائج خطيرة جدا سياسيا وأمنيا، ولم تتوقف التنظيمات التي قادت الانتفاضة عند سؤال: ماذا حققنا وماذا خسرنا وما هي الأخطاء أثناء الانتفاضة وما بعدها وحتى يومنا هذا.
ولأننا لم نتوقف عند التجارب السابقة ولم نستخلص دروسها، يتكرر الخطأ وإسقاط الرغبات والتقييم المبالغ به. يتكرر الخطأ في تقييم معركة «سيف القدس». من «نصر إلهي استراتيجي مركب» كما جاء على لسان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، إلى المطالبة بالعودة الى شروط التهدئة التي أعقبت عدوان 2014، والى غياب مصطلح النصر تدريجيا وصولا الى شيء آخر. يقول وزير المخابرات المصرية عباس كامل في مقابلة مع صحيفة «يديعوت» الإسرائيلية: نعمل كل الوقت على العلاقات الأمنية واستقرار الوضع في قطاع غزة امنيا واقتصاديا. وأضاف: إن السياسة المصرية تعمل على التهدئة ووقف نار طويل المدى، وإعمار القطاع، وتبادل الأسرى، والمزيد من التسهيلات في المعابر، ودخول إضافي للعمال، وتوسيع مدى الصيد. يفهم من حديث الوزير المصري المسؤول عن الملف الفلسطيني، ان الاتفاق سيكون شاملا لكن التطبيق سيكون متدرجا وبخاصة لجهة تبادل الأسرى، كالبدء بتحرير أطفال ونساء وشيوخ بالتوازي مع تهدئة ووقف إطلاق نار طويل الأمد كما ورد على لسان الوزير. ويُفهم من تصريحات حكومة بينيت، أنها تستخدم إعادة إعمار المنازل والأبراج والبنية التحتية المهدمة والمنحة القطرية ورفع الحصار بعملية تبادل مشروطة للأسرى تستبعد مقاومين متهمين بتنفيذ عمليات مقاومة من أصحاب المؤبدات. ليس هذا وحسب بل إن دولة الاحتلال تحاول فرض قواعد جديدة للصراع مع قطاع غزة.
لم تكن المشكلة في المقاومة وشجاعة المقاومين وقدرتهم على تطوير مقومات الاشتباك والتصدي للعدوان، وصمودهم البطولي على مدار أيام المعركة. كل هذا كان محط تقدير ودعم شعبي كبير. المشكلة كانت في المستوى السياسي الذي قاد الحرب وعمل على توظيفها فضلا عن تقييمه المبالغ بالإنجاز (النصر الإلهي الاستراتيجي المركب)، المشكلة في تكريس شعبوية بمشاركة نخب ثقافية قادت الأمور الى نوع من الإحباط. لم يكن الربط بين المقاومة وقضية القدس معمولا به قبل هبة القدس الأخيرة، ولم يكن الربط بين مناطق 48 والضفة والقطاع والشتات قائما. حدث تطور مهم هو الربط بين مواقع ومكونات الشعب أثناء الهبة التي بلغت ذروتها بإضراب تاريخي شامل. وهذا يعتبر إنجازا رمزيا مهما. كان تمرينا كشف إمكانية الربط. هذا الإنجاز على الأرض لم يكن مفروغا منه، بل يعوزه بناء مقومات الترابط أثناء الهبة وما بعدها ليصار الى حل مشكلة التفكك التي دأب المستعمرون الإسرائيليون على صناعتها وتكريسها على الأرض دون تصد فلسطيني جدي لتجزئة الشعب وقضاياه وأهدافه الجمعية المشتركة.
قضايا التفاوض المطروحة للتداول تجسد الفصل وتكرسه، ولا يغير من الأمر دعوة حكومة بينيت الى استئناف التفاوض مع السلطة. فالهدنة طويلة الأمد، وإذا ما تم الأخذ بها فهذا يعني فصل قطاع غزة عن الأجزاء الأخرى على المدى الطويل، حيث تستفرد دولة الاحتلال بالضفة والقدس من خلال التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي والبيوت وهدم البنية التحتية والتطهير العرقي فضلا عن التشغيل المتواصل لآلة القمع التي تستهدف القضاء على مختلف أشكال المقاومة. وفي هذه الحالة يكون قطاع غزة مقيدا باتفاق التهدئة طويل المدى. وإذا أرادت المقاومة الخروج عن الاتفاق فلن تستطيع إلا بالاحتجاج السلمي على اكثر تقدير، وتكون عرضة لعقوبات الحصار. معنى ذلك ان «سيف القدس» سيعود الى غمده، وقد عاد فعلا بعد إشهاره على مدى 11 يوما متتالية، لا يعني ذلك دعوة «حماس» الى المغامرة وجلب المزيد من الدمار لقطاع غزة.
الواقع شيء والخطاب شيء آخر، لا يوجد تقييم او نقد، بل ان كل تقييم او نقد يتم وضعه في سلة العداء للمقاومة والممانعة أو في سلة التطبيع أو في سلة التفاوض العبثي والعكس صحيح. لقد جرى الربط بين القدس وغزة، هذه حقيقة لكنه توقف بعد 11 يوما وانقضى الأمر. الغريب انه لا يجوز الحديث عن توقفه ولا عن شروط وعوامل استمراره. لدينا مقاومة محترفة في قطاع غزة تستطيع الحاق الضرر الكبير بدولة الاحتلال، هذا نصف حقيقة والنصف الآخر هو سياسات قيادة المقاومة وأهدافها غير المعلنة وعجزها عن رفع المعاناة عن الشعب، وفصل التحرر من الاحتلال عن الحريات وعن الديمقراطية وربطه بمحاور إقليمية هدفها استخدام القضية الفلسطينية لتحسين نفوذها. الشعب مؤيد للمقاومة وداعم لها بصرف النظر عن المعاناة والأثمان الباهظة التي يدفعها هذا نصف الحقيقة، النصف الآخر المسكوت عنه وفيما إذا كان ذلك اضطراريا أم لا. أما النخبة المثقفة فقد توزعت على ثنائية قطبين وكلاهما أوصل الشعب الى طريق مسدود مع وجود تفاوت بينهما، قطب أوسلو الذي وضع المشروع الوطني على ركائز أميركية وعربية إسرائيلية هي على طرف نقيض من المشروع وقد دفعته في اتجاه معاكس وأوصلتنا الى مأزق يصعب الخروج منه. وقطب مقاومة بأيديولوجيا غير قادرة على توحيد الشعب وتسعى الى السيطرة بمعزل عن التحرر الوطني والاجتماعي. ان المستوى الثقافي اكتفى بأنصاف الحقائق، ولم ير إلا جزءا من المشهد، ما زاد الطين بلة.