نابلس - سنية الحسيني - النجاح الإخباري - لا يحمل وعد بلفور للفلسطينيين، والذي جاء في الثاني من تشرين الثاني للعام ١٩١٧، ذكرى مؤلمة فقط، بل يراه الفلسطينيون أيضاً المؤسس للظلم التاريخي الذي وقع عليهم منذ أكثر من عقد من الزمان، وسبباً لمعاناتهم الممتدة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.
لم تنتهِ معاناة الفلسطينيين بعد، رغم قبولهم بحل الدولتين، وتنازلهم عن ٧٨٪ من أرضهم، واعترافهم بإسرائيل، والذي تجسد جميعه بالتوقيع على اتفاق أوسلو العام ١٩٩٣، والذي كان يفترض أن يكون مدخلهم لتأسيس دولة فلسطينية، إلى جانب دولة إسرائيل.
وبعد أكثر من ربع قرن على توقيع ذلك الاتفاق، فشلت مبادرة حل الدولتين، ولم تعد هناك معطيات تؤسس لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود العام ١٩٦٧، وتصاعد الحديث عن خيار الدولة الواحدة، فما المقصود بالدولة الواحدة وما علاقتها بوعد بلفور؟
اختارت إسرائيل بعد استكمال احتلالها لجميع الأراضي الفلسطينية العام ١٩٦٧، خيار حل الدولتين كسبيل للتعامل مع الفلسطينيين، أو سكان الأرض الأصليين، كما اضطر الفلسطينيون للقبول بذلك الحل رسمياً خلال ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن تأكدوا أن خيارهم بتحرير مجمل أرض فلسطين بات غير ممكن لأسباب تعلقت بتبدل موازين القوة على الأرض.
ويعد خيار حل الدولتين، الذي صرحت به إسرائيل رسمياً خلال مفاوضاتها مع مصر لتوقيع اتفاق كامب ديفيد العام ١٩٧٨، والذي يعطي حكماً ذاتياً للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة العام ١٩٦٧، الخيار الأمثل لها، والذي تبنته منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.
وترفض إسرائيل فكرة الدولة الواحدة وحتى الوقت الحاضر، والتي تأتي في الإطار الذي وضعه وعد بلفور، لأن تساوي عدد الفلسطينيين واليهود على مجمل الأراضي الفلسطينية يقوض فكرة يهودية الدولة، التي أسست لها الحركة الصهيونية، وقامت إسرائيل على أساسها.
روجت إسرائيل لحل الدولتين وسعت لتحقيقه مع الفلسطينيين ضمن معطيات محددة، تضمن لها تحقيق أهدافها التي وضعتها الحركة الصهيونية مبكراً.
اختارت الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل تركيز استعمارها ومفاوضاتها مع بريطانيا على المنطقة الغربية الساحلية من فلسطين، لأهميتها الاستراتيجية، وليس انطلاقاً من ادعاءاتها الدينية أو التاريخية، والتي ترتكز في الأساس على المناطق الجبلية الوعرة وسط وشرق فلسطين.
وبعد أن استكملت إسرائيل احتلالها لباقي المناطق الفلسطينية، والتي تدعي قدسيتها الدينية لها وارتباطها التاريخي بها، راعت تنفيذ مخططاتها الاستيطانية المكثفة للسيطرة على أكبر مساحة من الأرض وتغيير تركيبتها الديمغرافية وطبيعتها التاريخية، فشرعت بالبحث عن اتفاق مع الفلسطينيين، يضمن لها ذلك تدريجياً وعبر السنوات.
واليوم، مستغلة معطيات عملية سلام واتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، ومستغلة لعامل الوقت الذي شارف على الثلاثة عقود، وفي ظل حماية أميركية أوروبية تحتضن مشروعها السلمي، نجحت إسرائيل بنقل ما يقرب من مليون يهودي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة العام ١٩٦٧، مغيرة الطبيعة الديمغرافية فيها، فتخطى عدد اليهود عدد الفلسطينيين في الجانب الشرقي من مدينة القدس، بعد أن تخطى عددهم ٣٥٠ ألف يهودي، متفوقين في ذلك على عدد الفلسطينيين فيه لأول مرة في التاريخ.
وفي الضفة الغربية، تخطى عدد اليهود في المنطقة المصنفة «منطقة ج»، والتي تشكل ثلثي مساحة الضفة الغربية، حوالى ٦٥٠ ألف مستوطن يهودي، متجاوزين بذلك عدد الفلسطينيين في تلك المنطقة بكثير.
ولا تعد تلك التحولات مفاجئة، فخلال ثمانينيات القرن الماضي كان عدد المستوطنين اليهود في الضفة والقدس ١٠٠ ألف مستوطن، ثم ارتفع خلال العام ٢٠٠٠ إلى ٣٥٠ ألف مستوطن.
وينسجم ذلك التحول مع مطالبات إسرائيل المتدرجة بضم المناطق الفلسطينية المحتلة العام ١٩٦٧ إليها، إذ بدأ إيهود باراك بالمطالبة بضم ٩٪ فقط منها، وتحدثت صفقة القرن التي وضعت بالتناسب مع بنيامين نتنياهو عن ضم ٣٠٪ منها، بينما وصلت في عهد بينيت، وتصريحات وزيرة العدل الحالية شاكيد إلى ضم «منطقة ج».
ويصبح الأمر أكثر وضوحاً إذا اقترن ذلك كله بفكرة الدولة اليهودية، أو الحفاظ على الأغلبية اليهودية لدولة إسرائيل، إذ تسعى إسرائيل لضمان السيطرة على أكبر مساحة من الأرض التي تضم أقل نسبة من عدد الفلسطينيين، كما تفعل حالياً في القدس الشرقية ومنطقة «ج»، وموافقتها على الاستمرار بالعمل بفكرة حل الدولتين الذي يضمن حكما ذاتيا للفلسطينيين في الأراضي المكتظة بهم، والذي يعكس ما نشهده اليوم في الضفة الغربية، مع استمرار تأكيدها على أنها لن تمنح الفلسطينيين دولة مستقلة، في إطار تكبيل سيادتهم بادعاءاتها الأمنية، واستمرار سياستها بالسيطرة على مصادرهم الطبيعية ومتابعة حركتهم، وكلها قضايا إلى جانب أخرى، تضمن تبعيتهم والانتقاص من سيادتهم. إن كل تلك المعطيات تفسر مخاوف عدد من المهتمين من إمكانية لجوء إسرائيل إلى إجبار الفلسطينيين على الرحيل من وطنهم في يوم من الأيام، استكمالاً لهذه الخطة.
من الطبيعي أن يفكر الفلسطينيون بخيارات أخرى غير حل الدولتين، الذي تثبت الأيام أنه لم يكن إلا مجرد خدعة إسرائيلية للاستيلاء على مجمل أرض فلسطين، بعد تفريغها من سكانها الأصليين.
ومن هنا بدأت الأصوات تعلو بحل الدولة الواحدة. والحقيقة أن حل الدولة الواحدة نوعان، الأول يقصد به الدولة الفلسطينية ذات السيادة على مجمل أرض فلسطين، والتي تأتي في أعقاب هزيمة الحركة الصهيونية أو إسرائيل بعد ذلك. وقد جاءت تلك المقاربة في إطار ما طرحه البريطانيون في الكتاب الأبيض العام ١٩٣٩، في ظل الثورة الكبرى وإرهاصات انخراطهم في الحرب العالمية الثانية، ورغبتهم في كسب العرب خلال تلك الفترة، وعادوا وتراجعوا عن تلك المقاربة بعد انتهاء الحرب. كما جاءت مقاربة الدولة الواحدة تلك أيضاً في الطرح الفلسطيني الذي جاء خلال عهد الانتداب بداية، ثم خلال ستينيات القرن الماضي من قبل منظمة التحرير وفصائلها، التي اعتبرت أن قيام دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية، سيأتي بعد هزيمة إسرائيل، ويمكن أن تضم المسلمين والمسيحيين واليهود أيضاً، سواء كانوا يهود فلسطين فقط كما في الحالة الأولى، أو جميع اليهود المتواجدين في فلسطين، بمن فيهم المستوطنون الأجانب كما في الحالة الثانية.
وأما عن النوع الثاني من حل الدولة الواحدة، والذي بات يطرح بعد قبول منظمة التحرير بحل الدولتين، فيعتمد في الأساس على أن تكون إسرائيل هي هذه الدولة، وأن ينخرط الفلسطينيون تحت مظلتها، إما في ظل دولة ديمقراطية علمانية يتساوى مواطنوها دون أي اعتبار عرقي أو ديني، أو في ظل دولة ثنائية القومية، يعيش فيها الفلسطينيون إلى جانب اليهود، بصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم. وفي الحالتين، يعد هذا النموذج استسلاما فلسطينيا وقبولا برواية إسرائيل التاريخية أو الدينية على حساب ما نؤمن ونناضل من أجله وإقرارا صريحا بالهزيمة، هذا إذا افترضنا أن إسرائيل ستقبل به. وترفض إسرائيل رفضاً تاماً فكرة حل الدولة الواحدة، ضمن المعطيات الحالية، والتي تقوض فكرة الدولة اليهودية. إلا أن ذلك لن يكون الحال، إن نجحت في تغيير التركيبة الديمغرافية في فلسطين في المستقبل، إذ إن وجود أقلية فلسطينية في البلاد لن يغير من هذه الفكرة.
إن انسحابا إسرائيليا من الضفة الغربية والقدس الشرقية، تفعيلاً لحل الدولتين يتطلب تغييراً أيديولوجياً إسرائيلياً حقيقياً، وهو أمر غير مرئي في المدى المنظور. كما أن حل الدولة الواحدة على أساس قومي، والذي يؤمن بفكرة النضال لتحصيل الحقوق المدنية والدينية والسياسية لإذابة النظام الصهيوني في إسرائيل وفضح ممارساته العنصرية بحق الفلسطينيين، أسوة بما حققه السكان الأصليون في جنوب إفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، يوصلنا إلى ما جاء في نص إعلان بلفور الذي دعا لتأسيس دولة لليهود في فلسطين مع مراعاة الحقوق المدنية والدينية لسكان البلاد من غير اليهود، وهو ما يرفضه كثير من الفلسطينيين، لأن القضية الفلسطينية بالنسبة لهم قضية وطن في الأساس، كما أن مقاربة الدولة الواحدة ثنائية القومية تعتمد لإنجاحها على أساس غير منطقي، فإسرائيل تمارس سياسة الفصل والتمييز العنصري منذ عقود ضد الفلسطينيين ليس فقط في المناطق المحتلة العام ١٩٦٧ وإنما أيضاً في أراضي العام ١٩٤٨، دون رادع أو مانع، وليس هناك أي مؤشرات لانحلالها.