جمال زحالقة - النجاح الإخباري - يشهد المجتمع الفلسطيني في أراضي 48 في السنوات الأخيرة، ارتفاعا حادا ومتواصلا في مستويات العنف والجريمة بشكل عام، وفي جرائم القتل بشكل خاص. ففي الفترة الممتدة بين عامي 1980 حتى عام 2000 كان عدد القتلى في جرائم جنائية أقل من مئة قتيل، وارتفع هذا العدد إلى حوالي 1500 منذ بداية الألفية الثالثة حتى اليوم، بما يزيد عن 15 ضعفا. وعلى الرغم من كل ما تدعيه الحكومة الإسرائيلية من سعيها إلى محاربة العنف، يتواصل الارتفاع في معدلات الجريمة، وهناك تسارع في هذا الارتفاع في العامين الأخيرين، ما ينذر بأن هذا الخطر يزداد.
وفي محاولة للتهرّب من مسؤوليتها، خرجت حكومة بينيت، في الأسابيع الأخيرة، بسلسلة من القرارات والمشاريع التي، وبذريعة محاربة الجريمة، ترمي إلى تمرير مشاريع الأسرلة، وإلى تشديد القبضة الأمنية على فلسطينيي الداخل، حيث يسود في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة اعتقاد بأن هبة أيار/مايو المجيدة كشفت تراخيا في هذه القبضة. ما تريده المؤسسة الإسرائيلية اليوم هو تقوية مكانة «الدولة القمعية» تجاه فلسطينيي الداخل، ودفعهم إلى الاستغاثة بها لإنقاذهم من الجريمة.
لقد عصفت هبّة الكرامة في أيار الماضي بالمدن والقرى العربية كافة في مناطق 48، وبالأخص يافا واللد والرملة وحيفا وعكّا، حيث الاحتكاك المباشرة مع المجتمع اليهودي في إسرائيل. ودقّت نواقيس الخطر عند النخب الإسرائيلية، التي اعتقدت أن مهمّة فصل فلسطينيي الداخل عن شعبهم قد أنجزت إلى درجة أن حزبا إسلاميا انضم إلى حكومة يمينية الطابع والمنحى. وجاءت الهبّة صفعة مدويّة لصنّاع القرار السياسي والأمني في إسرائيل. وقد لفت انتباههم، في ما التفتوا إليه، أن قسما من عصابات الإجرام والعالم السفلي المحلية، شاركت في الهبة وحملت السلاح وأطلقت النار لمنع المتطرفين اليهود من اقتحام الأحياء العربية.
وعلى الرغم من أن الرأي العام في إسرائيل بدأ يحسّ مباشرة بنار الجريمة والعنف في المجتمع العربي، إلّا أنّ الحكومة ما زالت تتهرّب من اتخاذ الخطوات اللازمة لسحق منظمات الإجرام، وتحاول التغطية على تواطئها معها، بإطلاق مبادرات لا علاقة لها بمحاربة الجريمة، وتحمل في طيّاتها مشاريع هيمنة ذات طابع أمني وعسكري وسياسي، وهي بمجملها وبمنطقها مدخل لمنح الشرعية لخرق حقوق الإنسان، وخرق حتى القانون الإسرائيلي نفسه، باسم «مكافحة العنف» وتوسيع هذا المدخل لتشديد قبضة التحكم بالمجتمع العربي، خاصة بعد أحداث هبة الكرامة المجيدة.
منذ عشرات السنين يقوم النظام الإسرائيلي بمحاولات حثيثة لربط مجتمعنا الفلسطيني في الداخل بمشاريع الأسرلة، وفي قمّتها الحاقه بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وتجلّى ذلك بفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على العرب الدروز خلال الخمسينيات من القرن الماضي، وبمشروع تجنيد المسيحيين للجيش الإسرائيلي، الذي استطعنا إفشاله عبر حراك وطني جماعي شامل. وحتى خلال أزمة كورونا، قامت المؤسسة الإسرائيلية، مع التخطيط وسبق الإصرار، بتقديم «الخدمات» للقرى والمدن العربية في الداخل، من خلال وحدات «الجبهة الداخلية» العسكرية في محاولة لفرض تطبيع العلاقة مع الجيش الإسرائيلي. وفي هذه الأيام، تستغل إسرائيل الأزمة الخانقة، التي يعاني منها المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، جرّاء تفاقم آفة الجريمة والعنف، وتعمل على فرض تطبيع العلاقة مع الأجهزة الأمنية، التي ترتكب الجرائم الفظيعة بحق شعبنا الفلسطيني في غزّة والضفة والقدس، وتقترح، إقامة محطّات شرطة جديدة، وتجنيد الشباب والصبايا العرب في الشرطة، والسماح بتدخّل جهاز المخابرات العامة «الشاباك» في معمعان محاربة الجريمة، وإدخال الجيش إلى هذا الميدان، وإقامة وحدة مستعربين خاصّة تكافح «الجريمة» وكذلك تقترح القيام باعتقالات إدارية، بادعاء أنها خطوة وقائية لمنع ارتكاب جرائم.
لقد رفضت القوى الوطنية في الداخل هذه المقترحات، واعتبرتها محاولة لاستغلال الوضع لغايات في نفس يعقوب، وتهرّبا من شنّ حرب فعلية على الجريمة والعنف. في مقابل الموقف الحازم للقوى الوطنية، خرجت بعض الأصوات ترحّب بهذه المقترحات بادعاء أن «لا مفر» وأن وقف نزيف الدم أهم من تجاوز الخطوط الحمراء الوطنية. ما نسيه هؤلاء أن الهوية الوطنية ذاتها هي أكثر ما يحمي المجتمع من انتشار الجريمة، لأنّ هذه الهوية مبنية على تعزيز الانتماء والإخلاص والارتباط بالمجتمع، وأن في صميم «عقلية الجريمة» ضعف الانتماء والتخلّص من الإخلاص وفك الارتباط بالمجتمع والشعب والوطن. وما نسيه هؤلاء أيضا هو أن مقترحات الحكومة هي «كذب في كذب» ولا علاقة لها بالحرب على الجريمة. فكيف سيحارب الشاباك الجريمة؟ وهو يستغلها لتجنيد العملاء من صفوف المجرمين ومنظمات الإجرام، فقد صرّح ضابط كبير في الشرطة الإسرائيلية قبل حوالي الشهر، بأن من أهم العوائق في محاربة الجريمة أنّ الشاباك يبسط حمايته لقيادات في منظمات الإجرام، لأنّها عميلة له. ومن الجدير ذكره في هذا السياق، أن الشرطة الإسرائيلية سلّمت كل الملفات الجنائية للشرطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، سوى ملفات تجارة المخدّرات، وحين حاولنا تقصّي السبب، تبيّن أنّ معظم تجار المخدرات كانوا عملاء للشاباك، وأراد الامتناع عن فضح أمرهم. هناك ادعاء بأن الشاباك يملك قدرات تعقّب إلكتروني ليست موجودة لدى الشرطة، وأن له انتشارا واسعا وعملاء كثرا، وعليه من الممكن، برأيهم، أن يساهم فعلا في محاربة الجريمة. السؤال أين كان كل هذا حتى الآن؟ ولكن حتى لو افترضنا أن «الشاباك» يستطيع أن يقدم مساهمة ما في مكافحة الجريمة، فإن هذه المساهمة ستبقى هامشية وليست مهمّة إذا ما قورنت بالدور، الذي يقوم به، كجهاز أمني مؤدلج، في مجال تفكيك الهوية الوطنية وفرض نظام الهيمنة الصهيوني على مجتمعنا، وبالتالي في إعادة إنتاج دفيئة الجريمة والعنف في المجتمع الفلسطيني في الداخل. أمّا الجيش الإسرائيلي فقد غض الطرف عن سرقة وتسريب أسلحته والتجارة بها، طالما كانت تستعمل في الجرائم الجنائية «عرب ضد عرب». هناك حوالي 300 ألف قطعة سلاح من كل الأنواع في المجتمع العربي في الداخل، وقد جرى تهريبها مباشرة من أسلحة الجيش الإسرائيلي ومن الضفة الغربية وعبر الحدود الأردنية، وإلى حد أقل عبر الحدود المصرية واللبنانية. كل هذا مسؤولية مباشرة للجيش الإسرائيلي، وهو لم يفعل، حتى الآن، شيئا لوقف تهريب الأسلحة ولا دليل على أنه ينوي تغيير هذا النهج، ومقترح إدخاله إلى مجال محاربة العنف والجريمة في المجتمع العربي، يستهدف تطبيع العلاقة مع هذا المجتمع وليس محاربة العنف الذي يعاني منه.
وما حاجة مكافحة العنف والجريمة للمستعربين، الذين يرتكبون الجرائم يوميا ضد شعبنا؟ وكيف سيحمي الناس من يرتكب الجرائم ضد شعبهم؟ أمّا القيام بالاعتقال الإداري فهو خرق لحقوق الإنسان واستسهال للخطوات التعسّفية ما دامت تستهدف العرب، وهو لن يمنع جرائم القتل، كما يدعون، لأن معظم جرائم القتل تنفّذ من قبل قتلة مأجورين، والاعتقال لن يمنعها.
ما يحكم تعامل المؤسسة الإسرائيلية مع انتشار العنف والجريمة في المجتمع العربي هو التمييز العنصري، الذي هو نظام وليس مجرد سياسة. هذا النظام، وفي كل القضايا، يهمّش ويقصي المواطن العربي الفلسطيني ويضعه في أسفل السلم تلقائيا، ولا يلتفت إليه إلا إذا ارتبط الأمر بالمجتمع اليهودي في إسرائيل. نظام التمييز العنصري تجاه فلسطينيي الداخل (وضد الفلسطينيين عموما) لا يختلف جوهريا عن نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. ومن المثير، لكن ليس غريبا، أن تداعيات سياسات هذين النظامين تنتج وتنشر بذور آفة الجريمة العنف، التي تنمو بسرعة في دفيئة العنصرية، وفي بيئة تمنحها كل أسباب النمو. فلو أخذنا عقلية الشرطة في هذا المجال، نجد أنها في جنوب افريقيا انطلقت من مبدأ أن الجريمة ضد السود ليست جريمة ولا تستحق الاهتمام، أما قتل الأبيض فهو جريمة وجريمة كبرى، وتستدعي جهدا عظيما. هكذا بالضبط الشرطة في إسرائيل حيث جرى نقل قول ضباط فيها «دعهم يقتلون الواحد الآخر» والقصد العرب، وفعلا الغالبية الساحقة من حالات القتل داخل المجتمع العربي تبقى بلا عقاب، في حين أن كل حالات قتل يهودي من قبل عربي على خلفية جنائية تنتهي دائما بالقبض على المتهمين وإدانتهم وحبسهم. لقد وصلت الجريمة الجنائية في جنوب افريقيا في عهد الأبرتهايد إلى معدّلات رهيبة وإلى ما يقارب 70 قتيلا من كل 100 ألف إنسان، وحتى بعد زوال النظام البائد ما زالت مخلفات هذه الحال حاضرة وبقوّة. لقد تطوّرت الجريمة في جنوب افريقيا في ظل نظام الأبرتهايد، بسبب الفجوات الضخمة في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والحياتية، والتجزئة الجغرافية والعرقية، وانعدام شبكات الضمان الاجتماعي، وسياسات الإذلال والاضطهاد والتهميش. كما استغل هذا النظام منظمات الإجرام لمحاربة المؤتمر الوطني الافريقي ومعارضي الأبرتهايد عموما. ما أشبه ذلك بالأبرتهايد الإسرائيلي الذي يدّعي اليوم انه ينوي محاربة الجريمة لكنّه ليس مستعدا لاقتلاع أي من أسبابها.
نظام الأبرتهايد يدفع ضحاياه إلى عالم الجريمة والعنف، هكذا في جنوب أفريقيا، وهكذا في إسرائيل. وبما أن هناك تداخلا بين طبيعة النظام الحاكم وتفشّي آفة الجريمة والعنف والقتل وتنامي قوّة ونفوذ منظمات الإجرام، فلا بدّ من ربط النضال ضد الجريمة والعنف بالنضال ضد نظام الأبرتهايد الإسرائيلي، الذي يعطي سببا إضافيا للسعي إلى تفكيكه من أساسه.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48