جمال زحالقة - النجاح الإخباري - نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» هذا الأسبوع تقريرا مطولاً حول تغلغل مفهوم «تقليص الصراع» في محافل الحكم في إسرائيل، حيث أصبح أكثر المصطلحات تداولا. وقد نُشرت في السنوات الأخيرة مقالات كثيرة تروج لهذا التوجه، الذي حظي بنقلة كبيرة بعد أن ردده نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي، وجدعون ساعر وزير القضاء، وتبناه عمليا يئير لبيد، وزير الخارجية ورئيس الوزراء المناوب. ويستدل من التصريحات ومن السلوك السياسي لأعضاء الإئتلاف الحكومي في إسرائيل، أن غالبيتهم الساحقة تساند مقاربة «تقليص الصراع» كل لدوافعه ومبرراته، فهم وإن اختلفوا في طبيعة «الحل» إلا أنهم متفقون على مبدأ «التقليص» كمبدأ مع فروق في التفاصيل.
المهم في الأمر أن هذه هي السياسة الإسرائيلية الفعلية، التي تواجه الشعب الفلسطيني والحركة الوطنية الفلسطينية هذه الأيام، إذ فقدت سياسة «أرض إسرائيل الكاملة» بشكلها التقليدي المباشر والعاري من حضورها وقوتها وتأثيرها، كما أن التوجه نحو «حل الدولتين» حتى بشروط مجحفة، لم يعد يؤخذ به كسياسة رسمية للدولة العبرية، وجرى تهميشه في العقد الأخير.
لا شريك إسرائيلي له قدرة على القرار بشأن حل الدولتين، وحتى الذين يؤمنون به صاروا يعبرون عن ترددهم علنا، بادعاء أنه ليس واقعيا في المستقبل المنظور. ولا شريك إسرائيلي أيضا لحل «الدولة الواحدة» حتى لو كانت دولة ابرتهايد، فالتيار المركزي في اليمين الإسرائيلي يسعى إلى إبعاد الكتلة البشرية الفلسطينية عن الدولة العبرية، وحشرها في «دويلة» على نصف أراضي الضفة الغربية، وضم مناطق «ج» وغور الأردن والقدس.
من الناحية العملية وفي المحصلة، يأتي اليسار والوسط واليمين في إسرائيل، رغم كل الخلافات، بالبضاعة نفسها وهي «تقليص الصراع». وجاء هذا التوجه استمرارا لتوجهات سابقة تضمنها اتفاق أوسلو، ومخططات لجهات أمنية وسياسية مختلفة، لعل أبرزها مشروع «التجميع» الذي أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت عام 2006، الذي كان من ضمن أهدافه المعلنة تقليص الاحتكاك بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين في الضفة الغربية، وضمان التواصل وحرية التنقل بين أجزاء الضفة الغربية الواقعة تحت نطاق حكم السلطة الوطنية الفلسطينية.
يعود مفهوم «تقليص الصراع» بطبعته الأخيرة، إلى المفكر الإسرائيلي ميخا غودمان المختص بالتاريخ اليهودي. ونشر غودمان عام 2017 كتابا بعنوان «في مصيدة 67» ضمنه أفكاره المركزية، التي تنطلق من خطر «حل الدولتين» الذي سيؤدي في رأيه إلى تهديد أمن إسرائيل على غرار ما حدث في قطاع غزة، لكن بشكل أكبر بكثير بسبب قرب الضفة الغربية إلى المدن الكبرى مثل تل أبيب وحيفا ونتانيا وغيرها. وتنطلق أيضا من خطورة الضم، الذي سيقضي على كون إسرائيل دولة يهودية. ويقترح تبعا لذلك ما يعتبره حلا وسطا بين الخطرين وهو «تقليص الصراع» مدعيا أن هذا هو الحل الوحيد العملي والبراغماتي. لا يقترح غودمان توجها لجسر الهوة بين العرب واليهود، بل حلا وسطا بين اليهود واليهود، وكل ما هو مطلوب من الفلسطينيين أن يوافقوا وأن يلتزموا بضمان أمن إسرائيل وأن لا يعطلوا حلا يضمن لهم، في رأيه «حرية الحركة والاستقلال الاقتصادي والكرامة والازدهار». وقد لخص غودمان مشروعه في ثمانية بنود، اعتبرها لصالح الفلسطينيين، وخمسة بنود وصفها بأنها من «حق» إسرائيل. البنود الثمانية هي أولا، تدفق المواصلات وحرية التنقل في مناطق السلطة الفلسطينية بلا عوائق، عبر شبكة من الطرق السريعة والالتفافية والجسور والأنفاق، بحيث لا يحتك الفلسطينيون بالجيش ويتنقلون بلا حواجز وبلا إغلاقات. وثانيا، توسيع أراضي السلطة، بنسبة حوالي 3%، لسد حاجات الزيادة الطبيعية، وحل مشكلة عشرات آلاف البيوت غير المرخصة. ثالثا، تسهيل السفر عبر جسر اللنبي وعبر مطار اللد. رابعا، زيادة تصاريح العمل في إسرائيل لتصل إلى 400 ألف، ما سيؤدي برأيه إلى ثورة اقتصادية. خامسا، تخصيص أراض لإقامة مناطق صناعية في منطقة «ج» بدعم دولي. سادسا، تخصيص قسم خاص في ميناء حيفا للتجار الفلسطينيين للاستيراد والتصدير المباشرين، برقابة أمنية إسرائيلية. سابعا، تسهيل حصول الفلسطينيين على استقلالية اقتصادية كاملة وإلغاء كل التقييدات، التي ينص عليها اتفاق باريس. ثامنا، الاعتراف بفلسطين كدولة دون الاعتراف بحدودها، بما في ذلك في الأروقة الدولية وفي الأمم المتحدة.
أما البنود الخمسة، التي في رأيه هي من «حق» إسرائيل فهي أولا، حرية عمل الشاباك في الضفة الغربية؛ ثانيا، يواصل الجيش الاقتحامات والاعتقالات؛ ثالثا؛ بقاء وجود عسكري إسرائيلي في منطقة غور الأردن؛ رابعا، سيطرة إسرائيلية كاملة على المجال الجوي؛ خامسا، يبقى المجال الكهرومغناطيسي تحت التحكم الإسرائيلي.
يدعي غودمان أنه استمد أفكاره من مواقف مسؤولين، سابقين وحاليين، في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وأرى أن الأفكار التي جمعها أو أنتجها بنفسه لا تعبر بتفاصيلها عن أي طرف مسؤول في المستويين السياسي والأمني في إسرائيل. وما يتردد عن أن بينيت يستشيره كثيرا، لا يعني أنه يقبل بآرائه مجتمعة، وهو يأخذ منها ما يعجبه فقط. فمن المستحيل مثلا أن يقبل بينيت أو تقبل حكومته بتوسيع مساحة الأراضي الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، لكن في المجمل يتبنى معظم الساسة في إسرائيل سقف ومفهوم «تقليص الصراع» ويذهب بعضهم إلى فرض حل من طرف واحد بهذه الطريقة، عبر خلق واقع «نصف دولة على نصف الضفة» ليكون النصف الآخر مزدحما بالمستوطنات، وبمئات آلاف المستوطنين، وجاهزا للضم حين تلوح الفرصة الملائمة. من أين يأتي غودمان وأمثاله بمثل هذه الأفكار، التي تختزل الفلسطيني إلى كائن اقتصادي متحرك تهمه فقط جودة الحياة والكرامة الشخصية؟ ينطلق غودمان في كتابه «مصيدة 67» من التحليل النفسي: «الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين تغذيه ديناميكية نفسية هدامة.. الشعور المهيمن عند الإسرائيليين هو الخوف. هم يخافون من الفلسطينيين وهذا الخوف بدائي وعميق ومشترك للجميع بغض النظر عن الموقف السياسي.. الشعور المركزي لدى الفلسطينيين هو الشعور بالإذلال والإهانة. الفلسطينيون لا يخافون من الإسرائيليين، بل يشعرون بالإهانة من قبلهم. الصراع هو لقاء مؤلم بين الخوف والإهانة». لا بد من القول هنا إن خوف الإسرائيليين مبرر ومفهوم، فهو خوف المجرم من الضحية.. وهذا الخوف عصي على الحل، لأنه ومهما قامت الضحية بطمأنة المجرم فهو لا يصدقها، لأنه يعرف تماما ما فعله بها، وبأنه من «غير المعقول» أن تهدأ وتسكن وتقبل ببئس المصير. لقد قامت القيادة الفلسطينية منذ ثمانينيات القرن الماضي بجهود جبارة في «معالجة» مشاعر الخوف الإسرائيلية، لكن النتائج كانت متواضعة، وحتى حين انخفض منسوب الخوف ارتفع تلقائيا منسوب الغرور، والنتيجة في السطر الأخير واحدة وهي التمسك بالاحتلال بادعاءات الخوف والأمن تارة، أو من منطلقات الغرور والحق التاريخي تارةً أخرى.
عامل الخوف هو عامل مركزي في فكر غودمان، فهو يستنتج مشروع «تقليص» الصراع كحل وسط بين خوفين: الخوف على الأمن إذا انتهى الاحتلال، والخوف على التوازن الديمغرافي إذا تم الضم. وإذ هو يعتبر مشروعه تعبيرا عن البراغماتية، فهي «براغماتية صهيونية» تبدأ وتنتهي في الإطار الصهيوني، وكأن الفلسطينيين ليسوا سوى متفرجين على ما يجري في إسرائيل. ليس من واجب الشعب الفلسطيني أن يطمئن المحتل، بل بالعكس، فبعد عقود من مساعي الطمأنة، أن الأوان ليشعر الاحتلال بالانزعاج والقلق والخوف، عبر نشر حالة من عدم الاستقرار والنضال الفعال. المطلوب فورا هو رفض مشاريع «تقليص الصراع» لأنها معدة للمحافظة على الاحتلال وخفض ثمنه إسرائيليا، ومن غير المعقول أن يقبل الفلسطيني المساهمة في بقاء الاحتلال. إن العدو الثاني للشعب الفلسطيني، بعد الصهيونية، هو الهدوء في ظل الاحتلال. وحتى لا تنجح محاولات إطالة عمر الاحتلال عبر مشاريع تقليص الصراع (هناك عدة مشاريع تحت نفس المسمى) يجب الرد على «البراغماتية الصهيونية» الهدامة باللجوء إلى براغماتية فلسطينية بناءة. ويقود التحليل البراغماتي الخالي من الأوهام إلى أنه لا شريك إسرائيلي للحل العادل، وإلى أن لا فائدة من مشاريع الطمأنة ولا إمكانية للتوصل إلى تسوية معقولة عبر المفاوضات. وعليه فإن أبعد ما يكون عن الواقعية هو المراهنة على إحياء ما يسمى «العملية السلمية». الموقف البراغماتي العقلاني والمسؤول هو، تبديد كل الأوهام والدخول في صدام مباشر مع الاحتلال على كل الأصعدة بالأخص في جبهات مثل القدس والاستيطان وحصار غزة.
الامتناع عن ذلك هو قلة مسؤولية في أقل تقدير.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48