عاطف ابو سيف - النجاح الإخباري - بات مؤكداً أن الإدارة الأميركية الجديدة لا خطة لديها بشأن العملية السياسية في الشرق الأوسط، فبعد قرابة عام من انتخاب الرئيس الجديد، لم تقدم إدارته سطراً واحداً يمكن للفرقاء أن يتناقشوا حوله. بل يمكن القول: إن الإدارة الجديدة غير مهتمة أساساً بتفاصيل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. لا يبدو حتى اللحظة أن هذا الأمر أولوية بالنسبة لبايدن ورجالات إدارته، وبمراقبة التحركات الواهنة للإدارة الجديدة يمكن الاستدلال بعدم وجود رغبة لا حقيقية ولا غير حقيقية بالعمل من أجل التدخل في حل الصراع. سيمر العام وربما سيمر عام آخر ولن نجد أي مبادرة حقيقية من طرف الإدارة الجديدة.
بالطبع السيد بايدن لم يفته التأكيد على التزامه بحلّ الدولتين، وبأن هذا الإطار القائم على وجود دولتين لشعبين هو الأمثل لإنهاء الصراع المزمن في المنطقة. وهذا الموقف يبدو مثل أي موقف محايد لا يريد أن يتبنى موقفاً، فهو يعيد تكرار المقولات العامة حول الصراع وسبل حله. بالضبط كان سيقول نفس القول أيّ أستاذ علوم سياسية في جامعة أميركية ما. بالنسبة لبايدن ليس هناك ما يقدمه، ربما ليس لأنه لا يرغب أو لا يريد الاصطدام في الشرق الأوسط، بل في الأساس لأنه لا يرى في أي تدخل أولوية بالنسبة للمصالح الأميركية. القصة ليست قصة موقف أو تصور حول الصراع، بل قصة أولويات، والصراع العربي - الإسرائيلي ليس أولوية بالنسبة للسيد بايدن. ومع هذا لا بأس من المحاولة. لا بأس من إيفاد رجالات الإدارة بين فترة وأخرى ليتحدثوا إلى قادة المنطقة ويناقشوا معهم بعض القضايا العامة حول الخلافات الجارية. رجالات الإدارة لا يحملون أفكاراً ولا مقترحات، ولا يبنون تصورات ولا رؤى حول الصراع وسبل حله. ربما المقصود أن تستمر العجلة في الدوران، وأن يواصل الجميع انشغاله بالذي يجري دون أن يكون هناك ما يمكن الحديث عنه. بالضبط هنا يكمن جوهر الحراك الأميركي الباهت في المنطقة. الحديث والنقاش دون وجود خطة. يمكن الزعم أن الخطة ستكون وليدة ونتيجة هذه الزيارات، ويمكن افترض حسن النية بأن الإدارة لديها ما تقوله، ولكن تريد أن تقوله في الوقت المناسب أو حين ينضج بشكل كامل. يمكن إبداء حسن النية، وانتظار غودو الأميركي أن يحمل حلاً سحرياً، ولكن المؤكد أن كل الإشارات تقول: إننا أبعد ما نكون عن أي رؤية جادة لإدارة بايدن تسعى لتقديم مقترحات جادة تصلُح مادة للحوار بين الطرفين، وإن مثل هذه الخطة حلم لن يتحقق بالمعنى الحقيقي.
هل انتهت الفرص لحلّ الصراع؟ يبدو السؤال منطقياً وبحاجة للتأمل، فأكثر من خمسين عاماً على هيمنة خطاب حل الدولتين على أساس الرابع من حزيران لم تنجح في تحقيق أي اختراق حقيقي نحو الحل. يمكن النظر لمؤتمر مدريد وبعد ذلك اتفاقية أوسلو بوصفهما الاختراق الوحيد الذي كان يمكن له أن يقود إلى الاقتراب من الحل. ولكن الحقيقة أن ما جرى بعد ذلك دلّل على قصور الاتفاق وعجزه عن التقدم نحو الحل المنشود. هل هناك ما يمكن اقتراحه من أجل تقريب وجهات النظر؟ يصعب الافتراض أن الأمر مجرد وجهات نظر يمكن السعي من أجل تقريبها إذا ما تم اقتراح تدخل مناسب. الأمر حقيقة هو عدم وجود رغبة عند الطرف الإسرائيلي لحلّ الصراع. القصة ليست على ماذا نتفاوض، بل هل نتفاوض من الأساس؟ إسرائيل لم تعد تجد حاجة للتفاوض مع الفلسطينيين حول الحل السياسي. جلّ ما قد تذهب إليه هو الحديث معهم حول تفاصيل العلاقة الميدانية معهم على الأرض حتى يتم تخفيف الاحتكاك بين المستوطنين وبين السكان. هذا نقاش آخر، لكنه ليس أقل أهمية يتعلق بالتوجهات الإسرائيلية. إحدى المقاربات التي قدمتها إدارة ترامب قامت عبر تصفية الصراع وليس حله. في سياقات معينة عليك البحث عن موقف وليس عن مخرج. إدارة ترامب اختارت الانحياز الكامل لصالح إسرائيل، وترجمت ذلك بالسعي لتصفية المصالح الفلسطينية ودفع العرب ليكونوا العجلات التي تدوس هذه المصالح. وجهة نظر غير أخلاقية وتضر بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، لكنها تعكس الإرادة الحقيقية بعدم المقدرة على إنجاز الحل الممكن وفق "برادايم" الدولتين. إدارة بايدن تدرك أيضاً أنه يصعب حل الصراع، وأن حله بحاجة للضغط على الطرف غير الراغب من أجل أن يستجيب، وأنه لا يمكن الضغط أكثر من ذلك على الفلسطينيين، وأن أي ضغط آخر عليهم لن يفيد، وعليه فإن الحل الأمثل هو الحفاظ على الهدوء وعدم توتير الأجواء في المنطقة.
هذا ليس كل ما في الأمر. أيضاً هناك ما يقال عن حالة الانكماش الأميركي في العالم. في مقال سابق، وهنا تحدثت عن التوجه الأميركي للانكماش، وعدم التدخل إلا بالحد الأدنى في الشؤون الخارجية. ومع الوقت بات هذا الانكماش واضحاً، وكان من علاماته الفارقة الانسحاب من أفغانستان وتسليم البلاد لـ"طالبان" التي تم شن الحرب المدمرة للإطاحة بها قبل عقدين من الزمن. أيضاً فيما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ولم يعد التدخل لإخماد الحرائق بنفس الأولوية؛ إذ إن خارطة الأصدقاء والأعداء البينية في المنطقة تبدلت ولم تعد الأمور على ما هي عليه. أميركياً لم يعد الاهتمام الأميركي كما كان من قبل، ولم يعد ثمة ما يدعو للقلق من اندلاع حروب كبرى في المنطقة، فأقصى ما قد يحدث توتر على جبهة غزة أو داخل الضفة، أما الحاجة للحلّ فليست ملحّة. التفاصيل تديرها إسرائيل وفق المعطيات المتوفرة في لحظتها.