عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - استفاقت فرنسا، ومن خلفها الاتحاد الأوروبي كلّه على خبر الاتفاق الأميركي الأسترالي بالإلغاء «العملي» لصفقة فرنسية مع أستراليا لتزويد هذه الأخيرة بثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية كانت قيمتها تزيد على 90 مليار دولار، وفي تقارير أخرى فإن قيمة الصفقة قد بلغت 56 ملياراً فقط.
ليس هذا فحسب، وإنما الإعلان عن تحالف أميركي ـ بريطاني ـ أسترالي دون معرفة أو استشارة الاتحاد الأوروبي، ومن وراء ظهره.
وزير الخارجية الفرنسي والمعروف بدبلوماسيته العالية، ولغته المهذّبة والمشذّبة كاد «يفلت» لسانه بالكامل وهو يصف الخطوة الأميركية بالطعنة الغادرة، وواصفاً سلوك الولايات المتحدة بـ»الانتهازية» والخيانة والكذب، أيضاً.
كيف للولايات المتحدة أن تقدم على كل هذا دون أن «يرفّ لها جفن»، ودون أن تضع في حسبانها ردة الفعل الفرنسية، وكذلك الموقف الأوروبي الأشمل؟
للإجابة عن هذا السؤال الكبير علينا أن نعيد النظر في بعض الأفكار «التقليدية» السائدة حول حقيقة الصراع الأميركي الصيني، وحول أبعاده وأدواته ومآلاته المتوقعة، وحول التحالفات التي يتطلبها هذا الصراع من وجهة النظر الأميركية أساساً.
فبالرغم من أن أوروبا كانت، وما زالت نسبياً حتى الآن، حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة إلاّ أنها (أي أوروبا) ليست الحليف الأوثق على هذا الصعيد المحدد بالصراع الأميركي الصيني في الظروف التاريخية الجديدة.
والسبب هو أن الاتحاد الأوروبي، الذي تقوده ألمانيا اقتصادياً، وتقوده فرنسا سياسياً ليس لديه أسباب مطابقة لأسباب (وجع الرأس) الأميركي من تنامي الدور الصيني نحو التربع المؤكد على رأس دول العالم اقتصادياً، ومن تنامي الدور الإقليمي للصين في آسيا، ومن التطور الصاروخي للصين في مجالات حساسة من اقتصاديات المعرفة وتقنياتها، إضافة إلى تنامي دورها وقدراتها العسكرية، أيضاً.
الدولتان الوحيدتان في هذا العالم، اللتان لديهما نفس درجة القلق الأميركي هما أستراليا لأسباب جيوسياسية، وبريطانيا لأسباب خاصة بضرورة «التعويض» عن خروجها من الاتحاد الأوروبي بتحالف خاص يتجاوز العلاقات (التقليدية) في إطار الحلف الأطلسي، إضافة إلى الموقف الذيلي الذي بات معروفاً عن بريطانيا في علاقاتها بالولايات المتحدة.
والسبب، أيضاً، هو أن الولايات المتحدة تدرك بعمق أن الاتحاد الأوروبي قد كبّل نفسه بقيود «غبية» حول مسألة «الإجماع»، وهي تدرك تماماً أن هذا «الإجماع» لن يتوفر أبداً في أي قضية جادة أو مصيرية، لأن الولايات المتحدة لديها اثنتان أو ثلاث دول تدين لها بالولاء التام، أو الولاء الضروري الذي تحتاجه إذا لزم الأمر.
وهناك من الأسباب ما هو أبعد وأعمق من ذلك كله.
فأوروبا التي توصف بالقارة العجوز لأسباب سكانية وتاريخية وجغرافية هي القارة العجوز بالمعنى السياسي، أيضاً.
الوزير الفرنسي مرّ عن الشيخوخة الأوروبية حين عاتب ولام إدارة بايدن حول موقف الأخير من العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بكون هذا الموقف يعيد إلى الأذهان مواقف سلفه دونالد ترامب.
هذا يعني في الواقع أن فرنسا، الزعيمة الفعلية لأوروبا سياسياً لم تدرك بعد أن بايدن لا يسير على خطى ترامب في هذه القضية تحديداً، وأن بايدن يعيد التأكيد على خطى أوباما، وأن ترامب حاول أن يعادي ويستعدي الصين بصورة استعراضية، وبصورة كاريكاتورية أحياناً.
بل حتى فإن شعار «أميركا أولاً» هو شعار «مسروق» من «خزانة ملابس» الرئيس أوباما نفسه، لأنه هو من دشّن مرحلة «الانكفاء» العسكري الأميركي، وهو من أسرع لمنازلة الصين في آسيا، وهو الذي لفت الانتباه الخاص حول «خطر» الصين على المصالح الأميركية العليا، وعلى دورها الدولي كله.
الموقف من الصين، ومن روسيا، أيضاً، ليس مزاجاً لأي رئيس، وليس مسألة حزبية لأنها ببساطة مسألة المصالح «القومية» العليا للدولة الأميركية العميقة، والتي هي مصالح عابرة للرؤساء والأحزاب وعابرة لشكل النظام السياسي فيها.
وإذا بقيت العقلية الأوروبية على هذه الشاكلة، وعند هذه الخطوط فإن مباغتة الولايات المتحدة لأوروبا ستتكرر كثيراً بعد «تحالف أوكوس» الجديد، وبعد إلغاء الصفقة الأسترالية، وبعد خفايا وآليات الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والذي هو محاولة أميركية لخلق «متاعب» كبيرة للصين وروسيا وإيران وحتى لباكستان عن طريق إقامة نظام رجعي، يكون بمثابة برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي لحظة، ويكون بمثابة «خزان» استراتيجي للإرهاب قابل «للتصدير» إلى كل دول الجوار.
يبدو لذلك كله أن الولايات المتحدة تدرك أبعاد إقدامها على إقامة تحالفها الجديد لأنها تنطلق من اعتبارات استراتيجية بعيدة، وتستهدف إحداث تحولات كبرى في سياساتها الدولية.
لقد تغيرت أوراق اللعبة الدولية، ودور الولايات المتحدة كقائدة لهذا العالم هو الموضوع وهو المسألة، ولسنا على الإطلاق أمام استراتيجية «احتواء» أميركي للصين، لأن مفهوما كهذا ليس ذا صلة بواقع الأزمة الأميركية، ودورها العالمي، لأن «الاحتواء» ممكن أن يكون استراتيجية ناجعة عندما يكون الفرق أو التوازن بين الدولة أو الدول التي ترغب في أن تحتوي، وبين الدولة أو الدول المرغوب احتواؤها فارقاً كبيراً يتيح مثل هذه النجاعة، علماً أن معظم استراتيجيات «الاحتواء» قد انتهت إلى فشل ذريع..!
الصراع اليوم أكبر من «الاحتواء» وهو شكل جديد ونشط وخطير من «الحرب الباردة» في نسختها الفريدة التي لم تتضح كل معالمها بعد. الاتحاد الأوروبي إذا لم يبادر إلى ما هو أبعد من الزعل والحرد، أو إلى ما هو أهم من استدعاء السفير الفرنسي «للتشاور»، أو إذا لم يعقد قمة استثنائية لإعادة النظر في نظامه الداخلي، وإذا لم يتحرر من القيود التي كبّل نفسه بها، فإنه سيفقد موقعه في إطار صراع القوى والمصالح والنفوذ الدولي الذي يعمل عليه الرئيس بايدن بمكر واقتدار كبيرين.
وهو بات مطالباً (الاتحاد الأوروبي) بأن تكون لديه قوته الدفاعية الخاصة، والتي يمكن أن تبقي على علاقات تحالفية مع الولايات المتحدة، ولكنها لا تظل أسيرة لها.
وهو مطالب كذلك بالاهتمام الخاص بالصراع في منطقة الشرق الأوسط أساساً، لأن هذا الإقليم بالذات هو الإقليم الأهم لمصالحه الاستراتيجية، وهو الإقليم الذي يؤثر على أوروبا أكثر من أي إقليم في هذا العالم.
فبعض الدول الأوروبية ممن توصف بأولياء الولايات المتحدة، أو الذين يرون فيها وليّة نعمتهم لا يجوز أن يبقى صوتهم داخل الاتحاد الأوروبي عالياً من خلال سياسة «الإجماع» التي شلّت الاتحاد في مواقف ومواقع مصيرية.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي سيدخل في ورشة سياسية وتشريعية، ومؤسساتية مركبة للخروج من المأزق الذي خلقه بايدن للاتحاد الأوروبي بوعي ودراية ودون أن يتمكن الأوروبيون حتى الآن من الاستيقاظ المطلوب.
مؤسف أن تكون كتلة دولية بحجم الاتحاد الأوروبي ما زالت ترى أنها بحاجة إلى من يحميها، ومؤسف أكثر أن الديغولية قد تلاشت أو اضمحلت إلى هذه الدرجة، ولم يتبق منها سوى بعض الشذرات المتطايرة.
خارطة التحالفات والتوازنات الدولية بدأت بالتغير السريع والنشط، وكل من سيتأخر في ترتيب بيته وأوراقه، ورسم أولوياته انطلاقاً من هذا الواقع الجديد سيجد نفسه يلهث من بدايات السباق، وهو لم يصل حتى إلى منتصف الطريق.