نابلس - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - رياح السياسة أحياناً ما تكون جافة وخصوصاً في الحالة الفلسطينية فالنسمة الباردة التي شعر بها الفلسطينيون بلقاء الرئيس محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس معتقدين أنها بداية لفصل جديد بددتها التصريحات السريعة لمكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية فور انتهاء اللقاء، كأن الحكومة تحاول التنكر أو التنصل أمام جمهور رئيس وزرائها اليميني الذي يتكئ على المستوطنين كنواة صلبة لحزبه.
إذاً لماذا عقد اللقاء والذي رفضه بينيت منذ أسبوعين فقط ولم يسمح لوزير دفاعه بالاجتماع بالرئيس عباس، وكان يمكن أن يحدث على مستوى أقل وخصوصاً أن القضايا التي تم تناولها كان يمكن تنسيقها مع وزير الشؤون المدنية في السلطة.
ولكن هناك حلقة تبدو مفقودة من رئيس الوزراء الذي أعطى الإذن باللقاء وبنفس الوقت أعطى انطباع التهرب منه، قضايا صغيرة يتم نقاشها مع الرئيس الفلسطيني شخصياً وهو ما يمكن أن تتم الإحابة عنه بأن الاجتماع كان أحد مخرجات لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن بنفتالي بينيت الذي يترأس الحكومة الإسرائيلية، أي أنه لم يتحقق برغبة وإرادة الطرف الإسرائيلي إنما بضغط أميركي.
قبل أسابيع كان في المنطقة هادي عمرو نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، وكان من الواضح أن واشنطن لديها رؤية تنسجم أكثر مع مصالحها في المنطقة والتي تقوم على إعادة الانتشار الأميركية وقواتها وهذا يتطلب قدراً من التهدئة في بؤر التوتر القائمة، وبات أبرزها البؤرة الفلسطينية الملتهبة.
وقد جرت بروفة أيار الماضي واقتربت حرارتها عند عتبة البيت الأبيض وهو آخر ما تريده تلك الإدارة والتي أرسلت مبعوثها للبحث عن أفق الممكن وليس المطلوب في هذا الملف.
المطلوب كثير لكن الممكن قليل جداً. المطلوب حل سياسي لقضية شديدة الوضوح لدى دولة احتكرت هذا الملف منذ بدايات الحل بأن هناك دولة تحتل شعباً آخر، وتعج وثائق مسار المفاوضات برحلة طويلة من الخداع الإسرائيلي الذي كان يورثه كل رئيس وزراء لمن يأتي بعده وسرقة تكاد تكون يومية لأراضي الدولة المفترضة وحشوها بالاستيطان ليتحول حل الدولتين إلى واحد من مستحيلات السياسة وقد كان.
لكن المطلوب يتعثر بالممكن الذي تصنعه سخرية السياسة في لحظات العبث الماكرة، تدرك الولايات المتحدة التي تدس أصابعها في كل النظم السياسية بما فيها النظام في إسرائيل وهي تتسلى بلعبة فك وتركيب الأجزاء ولا أحد يشك في دورها في إسقاط نتنياهو وصناعة حكومة لنفتالي بينيت، وبالتالي تحول بينيت إلى الولد المدلل للبيت الأبيض، وتدرك واشنطن أن نتنياهو أبرز ثعالب السياسة الإسرائيليين يجلس منتظراً سقوط بينيت وهذا قد يتم إذا ما تم الضغط عليه بمسار سياسي، فحزب بينيت «يمينا» وهو حزب صغير لكنه شديد التطرف قد ينفرط إذا ما دخل بهذا المسار فتلك أول حكومة يكمن ضعف رئيس وزرائها في حزبه وتلك أحجية.
ولسوء الحظ فإن الفلسطينيين أيضاً يكرهون نتنياهو ويعتبرونه محطم آمالهم وأحلامهم والأب الروحي لتدمير حل الدولتين وأبو الاستيطان، وهو الذي أغلق بوابة التسوية وألقى بمفتاحها في البحر الميت بل وقام بتأليب العالم ضدهم واخترع كل المبررات للتهرب من أي شيء.
وإذا كان نفتالي بينيت يمينياً متطرفاً وهم يدركون ذلك ولكن أيضاً ولسوء حظهم ليس لديهم مصلحة بإسقاطه وتلك واحدة من مآسي السياسة التي تجعل الفلسطينيين يفهمون أو يتفهمون عدم رغبة الإدارة الأميركية بالضغط على حكومة إسرائيل.
تصوروا ما أسوأ الخيارات أمامهم حين يصبح مدير عام مجلس المستوطنات أخف وطأة من نتنياهو.
نفتالي بينيت صاحب التاريخ ليس الطويل بوراثة الحركة الاستيطانية وعمودها القديم حزب المفدال وصاحب مشروع الاستيطان ومبادرته بضم مناطق «ج»، وكان طوال الأسبوع يكرر أن لا مسار سياسياً مع الفلسطينيين سواء عبر بيانات صدرت من مكتبه أو اللقاء الذي عقده الجمعة عن بعد مع قادة الجالية اليهودية بالولايات المتحدة، والأخطر أن تلك التصريحات تحظى بتفهم كبير لدى العالم والبيت الأبيض الذين يتابعون هشاشة تركيب الحكومة الإسرائيلية الآيلة للسقوط بعضو كنيست واحد.
الخشية على هذه الحكومة هي العصا الثقيلة التي يتم التلويح بها أمام الفلسطينيين أو حقنة المخدر اللازمة والذين ربما يتشاركون مع الإدارة الأميركية بهذا التصور لسوء قدرهم.
لكن الوضع القائم سواء في قطاع غزة المؤهل للانفجار في أي لحظة وتتناثر شظاياه عبر المحيط أو الضفة الغربية التي تحترق غابتها يستدعي قدراً من التفكيك لألغامها، وهو ما أزاح الملف السياسي عن طاولة الاجتماع مع بايدن واستدعى البحث عن وسائل تهدئة أخرى أقل تكلفة لإسرائيل وتحقق الهدوء للولايات المتحدة والإسعاف العاجل للفلسطينيين.
وإذا كان المطلوب قد تعثر بالممكن فإن الممكن أيضاً قد يتعثر بسبب المخزون الهائل للمراوغة الإسرائيلية التي تجسدت بالتجربة الطويلة لدولة ليس لديها مواعيد مقدسة ولا اتفاقيات مقدسة ولا تفاهمات مقدسة، وكل شيء يحدده المزاج الإسرائيلي وعنهجية القوة التي ترى بوجود الفلسطيني على هذه الأرض تهديداً لمشروعها وبأن التعاطي مع الفلسطينيين يتم من منظور هرم ماسلو للحاجات حيث إبقاء الفلسطينيين في حالة انشغال دائم بالغرائز والحاجات الأساسية للحيلولة دون الانتقال لمرحلة متقدمة في الهرم والبحث عن الذات الوطنية فإن الانفراجات ستدفع الفلسطينيين للمطالبة لاحقاً بالحقوق الوطنية.
ربما وسط انشغال الإدارة الأميركية بملفات كبيرة مثل أفغانستان والصين وغيرها لا يبدو أن لديها ما يكفي من الوقت لمتابعة ملف «هامشي بنظرها» كالملف الفلسطيني.
ولكن من الواضح أنها استدعت القاهرة وعمان لمتابعة المسار المتواضع ليس السياسي بالقطع وضمان عدم تراجع الإسرائيلي أو جعل تلك القضايا مدار مفاوضات قد يجعلها تمتد لسنوات كما قالت التجربة المريرة معه.
من هنا كانت القمة التي جمعت الرئيس المصري بالرئيس الفلسطيني وملك الأردن لتتبعها دعوة رئيس الوزراء بينيت لزيارة مصر.
في روايته الرائعة «كيف حملت القلم» ذكر الكاتب السوري الكبير حنا مينا قصة اليهودي الذي ذهب للحاخام يشكو ضيق غرفته التي يعيش فيها مع زوجته وابنته ونصحه الحاخام بإدخال البقرة والغنمة داخل الغرفة ثم البدء بإخراجهما واحدة واحدة ليشعر بالانفراج والتسهيلات، الفلسطينيون في مرحلة إخراج البقرة، وردود الفعل والفرح الناتج عن التسهيلات يقول ذلك، كيف استدرجنا إلى هذا الوضع النفسي؟ سؤال كبير لا يقل قسوة عن سؤال الصمت العربي.....!