نابلس - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - الصدامات الثأرية العنيفة في مدينة الخليل احتلت صدر المشهد الفلسطيني من فرط العنف العائلي الممارس أثناءها. هذه الصدامات لم تكن حدثاً استثنائياً، بل جاءت امتداداً لعمليات ثأر وقتل على خلفيات متعددة شملت سائر محافظات فلسطين بما في ذلك مناطق 48. ومن دواعي القلق ان الصدامات العنفية راهناً وسابقاً تكرست كظاهرة مجتمعية آخذة في الاتساع والانتشار. ولا غضاضة في القول إن السلم الأهلي الفلسطيني في خطر، وما يعنيه ذلك من تغليب التناقض الثانوي داخل المجتمع الفلسطيني على التناقض الرئيسي مع المشروع الاستيطاني الإقصائي الإسرائيلي. قد تكون الصراعات الداخلية لحظات عابرة في الصراع، لكن استمرارها وتصاعدها وشمولها مختلف المناطق يهدد التماسك المجتمعي والصمود في مواجهة خطر الاحتلال والاستيطان والهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية.
وعندما يترافق العنف المجتمعي الداخلي مع عنف سلطة الاحتلال ونهبها للموارد وكبحها للتطور الاقتصادي الاجتماعي، ويترافق مع فشل السلطة في احتكار استخدام القوة وإنفاذ القانون وفي تحقيق السلم الأهلي والعدالة النسبية، بل يترافق مع انتهاك السلطة للحريات العامة والقانون، فإن المجتمع الفلسطيني يدخل في ازمة بنيوية، تحتاج ألى سبر اغوارها بالبحث والتدقيق ومعرفة كل ما هو مسكوت عنه.
ما يحدث من تصدع داخلي، وثيق الصلة بتحولات سياسية اجتماعية رجعية داخل المجتمع، لا سيما التحول في منظومة القيم والاستقواء بعلاقات ما قبل مدنية ما قبل رأسمالية. كان من اللافت الثأر من رموز مقاومة بعد أكثر من ثلاثة عقود على خلفية محاسبة سابقة لمتهمين بالتعاون مع سلطات الاحتلال أثناء الانتفاضة الأولى. كان الموقف من العملاء موحداً ولم يشذ عن ذلك أقرباء العملاء الذين كانوا مع محاسبتهم. عمليات الثأر للعملاء تعبر عن بداية تغير في منظومة القيم الوطنية. ولا ينفصل التصدع الداخلي عن عملية الكبح الإسرائيلي المتواصل للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية السياسية على الأرض الفلسطينية، ولا عن التفكيك المتواصل لديناميات تطور وتحرر المجتمع الفلسطيني. التحولات الرجعية تعني إخفاق البناء المضاد للتفكيك والكبح، تعني إخفاق الحركة السياسية (فصائل المنظمة وفصائل المعارضة بتفاوت) وإخفاق السلطة الرسمية وسلطة المعارضة بتفاوت في البناء المضاد للتفكيك. ومجموع الإخفاقات دفع المواطنين للبحث عن بدائل للحماية، كالعائلة والعشيرة والجهويات والعصابات المافيوية والمال السياسي والمراكز الإقليمية. وجه الغرابة ليس في التحولات الموضوعية رغم رجعيتها وتخلفها وليس في تعايش المجتمع معها، وجه الغرابة يتبدى في تعايش الحركة السياسية مع تلك التحولات وصولاً الى التماهي معها.
ما هي أسباب الشروخ والتصدعات في السلم الأهلي وهل يمكن قطع الطريق على مسارها المنطلق بسرعة؟ الأسباب المعلنة او المباشرة تتمحور حول الخلاف على أراضي وحقوق إرثية وشرف العائلة والقتل بالخطأ وتعارك الأطفال وغير ذلك... الأسباب غير المباشرة وبعضها مسكوت عنه كالاختناق الاقتصادي الذي يعيشه قطاع غزة على نحو خاص، ويتسبب في احتقانات وانفجارات داخلية أحياناً، وفي مواجهة دولة الاحتلال في كثير من الأحيان. يلاحظ ان المنحة القطرية الشهرية لها وظيفة عنوانها تفادي الانفجار. وبدورها الثقافة السائدة تولد العنف، الثقافة الذكورية ومفهوم الهيمنة على النساء والتمييز ضدهن تؤدي الى جرائم على خلفية ما يسمى بشرف العائلة. وثقافة التزمُّت الديني القائمة على التكفير والتحريم والتخوين والإرهاب الفكري، تلك الثقافة التي تكبح الحريات وتنتج المزيد من العنف. كذلك ثقافة الولاءات العشائرية والعائلية كبديل للولاءات الوطنية والحزبية والمؤسسية تنتج بدورها حروباً لا حصر لها بين عائلات وعشائر في المدينة الواحدة وفي البلدة الواحدة. وثمة سبب لا يقل أهمية عن الأسباب الأخرى. ضعف السلطة القضائية وتهاون السلطة السياسية والتنفيذية في الدفاع عن القانون والنظام، وقبولها بمكانة العشائر وبالقانون العشائري وتضعهما في موقع سلطة القرار، ولا تدافع عن الحق العام أمام سطوة العشائر والعائلات. وتؤدي سهولة الحصول على السلاح غير المرخص الى مفاقمة الخسائر المادية والبشرية ويمهد ذلك الى الدخول في طور الجريمة المنظمة عبر عصابات قتل، كما حدث في مناطق الـ 48. يلاحظ ان سلطات الاحتلال تملك قاعدة معلومات وتكون بالمرصاد للسلاح الذي قد يستخدم ضد الاحتلال، مقابل ذلك تتغاضى عن الكم الوفير من السلاح غير المرخص الذي يستخدم في العنف الداخلي الفلسطيني وفي الجريمة المنظمة وفي الأعراس والاحتفالات.
هل يمكن تجاوز التهديد الفعلي للسلم الأهلي الفلسطيني؟ التجاوز يبدأ ببناء تفاؤل وأمل بالتحرر من الاحتلال مقترنين ببرنامج وطني، وبتعاقد وطني اجتماعي بين أبناء الشعب الواحد من جهة وبين منظمة التحرير كمركز سياسي وممثل شرعي وبين سلطة بأدوار جديدة. إعادة الاعتبار للقضاء والقانون من خلال إصدار قانون عقوبات وقانون أحوال شخصية جديدين والمواءمة بين القوانين والاتفاقات والمعاهدات والقوانين الفلسطينية. ودعم المؤسسات الحقوقية والمدنية بما في ذلك استحداث مؤسسة خاصة تضم رجال قانون وخبراء للبت في قضايا الأراضي والميراث. التجاوز يحدث من خلال خطاب ثقافي وإعلامي يعلي من شأن قيمة وحقوق الانسان ويشرح التعدد السياسي والديني والثقافي والحق في الاختلاف وحل الخلافات بالاحتكام للقضاء والقانون، ويدافع عن الحق في الحياة كحق مقدس والحق في التعبير والنقد واحترام الرأي الآخر.
الإجراء الأهم في التجاوز يكون بتوفر قوة شرطية تقوم بإنفاذ القانون وبالدفاع عنه، ولا تستطيع الشرطة إنفاذ القانون والدفاع عنه بمعزل عن التأهيل ومعرفة المغزى الإنساني لتلك القوانين والاقتناع بها. وتحديداً تثقيف الشرطة وتدريبها على احترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنة كي لا يتكرر ما حدث من فعل وحشي مع الناشط السياسي نزار بنات ومع قمع الاحتجاجات على الجريمة وعلى قمع الإعلاميين والإعلاميات. وطالما لا تستطيع أجهزة الأمن الأخرى تأمين الحماية للمواطنين من اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال، وطالما لا تستطيع أجهزة الأمن الحفاظ على كرامة المواطنين، فإنها تفقد مبرر دورها ووجودها. فقط هناك مبرر لوجود شرطة تتولى مهمة إنفاذ القانون والدفاع عنه.