نابلس - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - المثقف لا يموت تماماً في لحظة غيابه، بل تكون اللحظة محطة انتشار أو انفجار أفكاره، خاصة عندما يكون الغياب صارخاً كما في اغتيال غسان كنفاني، بعكس السياسي الذي ينتهي أثره كمصرع طائر عندما يغادر مقعده، ففي أي مجتمع لا توجد مشكلة في إيجاد سياسي، إذ يمكن أن يعيَّن عابر سبيل وزيراً، فهناك دوماً وفرة وفائض في السياسيين وتزاحم تسبب بكل تلك المآسي الصراعات التي نشهدها، لكن أن تجد مثقفا فهؤلاء معدودون على الأصابع، ومن هنا اكتسب المثقف قيمته وحضوره ولأنه يترك أثراً يمتد لعشرات السنين، فيما يختفي السياسيون باختفاء عالم المصالح.
بقي غسان كنفاني ومحمود درويش وادوارد سعيد وأحمد دحبور وكل المثقفين الذين قاتلوا على جبهة الثقافة وكتبوا اسم فلسطين على الريح، صنعوا للبندقية اسماً وتاريخاً وهوية إنسانية في سياقها الحضاري، خاطبونا وخاطبوا العالم بلغة تليق بشعب كم كان جديراً بالحياة، كيف تمكن هذا الشعب العظيم من انتاج تلك النخبة التي ملأت الكون حباً وعشقاً وألماً فاض في كل العواصم لشعب تمكنوا من إدخال سيرته وصوته في أقصى البيوت البعيدة، كأن درويش وغسان احدى معجزاتنا التي تجدها وتصاب بالدهشة والفرح لعظمة ما صنعوا لنا حتى بعد غيابهم.
منذ دخلت السجن شاباً دون العشرين وتعرفت على سجناء الجبهة الشعبية والتي لم يحدث مصادفة أن أحظى بشرف الانتماء لها، كان معظمهم يكنّي نفسه بأبي غسان تيمناً بذلك النجم الذي سطع في سماء فلسطين، فتساءلت مبكراً عن سر غسان وروايات غسان التي أنتجها وكيف اغتالته إسرائيل مع ابنة أخته الطفلة لميس التي ظلت شاهدة على الجريمة الإسرائيلية باغتيال البراءة، وعداء إسرائيل للثقافة لأن كنفاني لم يحمل بندقية، ولأن صراعها مع القلم الفلسطيني لا يقل ضراوة، وهو الذي يعرّي الرواية الإسرائيلية من زيفها وثوبها التي حاولت ارتداءه، وتقدم الضحية بصورتها الحية التي لا يمكن مصارعتها.
كان أولهم الصديق المرحوم منصور ثابت «أبو غسان» المتيم بالشهيد «أبو فايز»، كان عمره آنذاك 38 عاماً مقسمة بالتساوي، منها تسعة عشر عاماً قضاها في الأسر ومثلها في الخارج، كان نقياً وطاهراً وطنياً نذر نفسه لفلسطين، يتحدث عن غسان كأنه يعرفه ويحفظ كل سطر كتبه الشهيد المثقف الذي اغتيل عام 1972 وهو المولود في انتفاضة عام 36، وكان قدره أن يحيا 36 عاماً، أنتج كل هذا الإرث الذي ما زال قادراً على الوصول لكل مكان.
قبل أسبوع كان جهاد أبو فلاح الصديق الصحافي في لندن وهو الفتحاوي القديم يريني عبر جهازه المحمول مقابلة مدهشة لغسان كنفاني الذي كان يتحدث الانجليزية بطلاقة، ويقدم فيها أجوبة حاسمة وقاطعة لمحاوره الذي كان يطالبه بالبدء بمفاوضات مع إسرائيل، كان غسان مندهشاً من السؤال ويجيب بتساؤلات: التفاوض؟ مع من؟ مع إسرائيل؟ «هذا يعني حوار السكين مع الرقبة» وكان ذلك تعبيراً أصابني بالذهول لشدة حدّته، قد يكون الزمن تغير ولكن هناك أشياء لا بد من العودة لها عندما تدخل مرحلة التيه.
قبل فترة كنت في زيارة لمدينة أكسفورد أحل ضيفاً في منزل الدكتور آفي شلايم أستاذ التاريخ بجامعة أكسفورد، وهو أحد أبرز المؤرخين الجدد الذين طالبوا بإعادة كتابة تاريخ النكبة وأشد المؤيدين لعدالة القضية الفلسطينية، وأشد الناقدين للحكومات الإسرائيلية كرجل كان حالماً بالسلام، وحطمت هذه الحكومات كل آماله ويُعتبر أفضل من قدم شهادات ضدها خصوصاً ايهود باراك، كاشفاً خديعته في كامب ديفيد في مقالته الشهيرة «باراك نابليون إسرائيل الصغير» بعد أن حاول الأخير تحميل ياسر عرفات مسؤولية فشلها، فقد كان شلايم صديقاً شخصياً للراحل الملك حسين ويعرف التفاصيل والخدع الإسرائيلية كلها.
على مائدة العشاء كانت زوجته غوين الأستاذة الجامعية وهي حفيدة لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا الأسبق والذي ترأس الحكومة بين نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية عشرينات القرن الماضي أي فترة وعد بلفور المشؤوم، وهو التاريخ الذي تخجل منه لأن أحد أفراد أسرتها ارتكب هذا الجرم التاريخي بحق شعب بأكمله. قالت مدام جوين: «أتعرف؟ أنا تعرفت على القضية الفلسطينية وأصبحت مؤيدة لها حين قرأت لغسان كنفاني ومحمود درويش، تأثرت جداً من «رواية رجال في الشمس» فقد كانت تعبيراً مكثفاً عن مظلوميتكم التاريخية» وهي السيدة التي لا تعرف اللغة العربية، فكيف وصلت روايات غسان التي كتبها بلغته حد التأثير إلى تلك الزوايا وتمكنت من استمالة سيدة بهذا المستوى لصالح فلسطين وغيرها كثيرين.
كان شلايم يحدثني عن صديقه الحميم المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد معترفا بصدق نبوءة صديقه بأن عملية التسوية لن تؤدي إلى شيء، إذ قال لي: «أصاب إدوارد سعيد وأخطأت أنا «وهو يذكرني بمحاضرة كانا ضيفيها في مطلع التسعينات بُعيد توقيع اوسلو حين كانت الآمال عالية، تحدث سعيد بكل تشاؤمه بأن الاتفاق لن يحقق السلام فيما كان شلايم شديد التفاؤل قبل أن يكتشف مبكراً مكر إسرائيل ليتخذ موقفاً حاداً ضد حكوماتها، لقد مثل سعيد ظاهرة ثقافية فلسطينية تمكنت من التأثير على المستوى العالمي إذ كان أحد تلامذته الرئيس الأسبق باراك أوباما.
لقد أنتجت فلسطين هذا القدر من المثقفين العظام الذين تمكنوا من بناء حائط الصد الثقافي أمام الرواية الاسرائيلية وما زالوا بعد غيابهم حتى يقومون بالدور، قد تفتح ذكرى اغتيال غسان كنفاني باب الوقوف أمام ظاهرة الثقافة والمثقفين والذين احتضنتهم الفصائل ومنظمة التحرير الفلسطينية. والسؤال عن غياب المثقف في هذه المرحلة وتصحر الثقافة الفلسطينية، فيما كان مثقفونا الكبار على مسافة منه حيث كان لكنفاني مساحة ما في الاختلاف مع الجبهة الشعبية وحريته في التفكير، وهكذا فهمت الصديق الكاتب الأستاذ هاني حبيب الذي عايشه صحافياً عن قرب.
أما درويش فقد كتب ديوانه «أحد عشر كوكباً» بعد أوسلو لينشر قصيدته المعارضة لكل ما جرى بعنوان «للحقيقة وجهان والثلج أسود»، هؤلاء كرمتهم الحالة السياسية حينذاك، فغسان كان عضوا في المكتب السياسي أرفع مؤسسة للجبهة الشعبية، ودرويش كان عضواً في اللجنة التنفيذية أرفع مؤسسة فلسطينية، وبالمناسبة لم يفصله ياسر عرفات حين نشر اعتراضه ضده بكل القسوة التي حملتها القصيدة، بل أصر على عودته للوطن. أما الآن فتبدو الفصائل أكثر نزقاً وأقل كفاءة وفي عداء مع المثقف الناقد.
المتاهة الفلسطينية الآن تشبه مأزق أولئك الرجال الذين ماتوا قبل أن يطرق أي منهم الخزان للنجاة، وإن كان غسان قد ألقى بالسؤال في وجوهنا جميعاً ليظل حاضراً في كل المراحل، ونفس السؤال الآن في ظل ما يشبه الانهيار: لماذا لم يطرق أحدُنا الخزان؟ والسؤال الأهم كيف نطرقه في ظل ما هو قائم؟ هذا تجيب عليه الأجيال التي تتمتع بحكمة الصمت القاتل ..!