نابلس - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - أثناء العدوان على غزة كانت مقولات النخب المثقفة الأكثر تكراراً أن الشعوب تدفع أثماناً باهظة لقاء حريتها واستقلالها، وأن الدماء ترخص فداء للوطن.. إلخ من هذا الكلام الجميل.. وبالمناسبة مع أنه كلام إنشائي، وشعاراتي، وعاطفي، لكنه صحيح مبدئياً، ولا خلاف عليه.. إنما الخلاف على السياق العام الذي تأتي فيه التضحيات، والأهداف التي يقررها من يطالبون الشعب بالتضحية.
وحتى بعد أن تبين مقدار الدمار الهائل، والأرواح التي أزهقت، والخراب الكبير الذي خلفه العدوان، لم تتغير نبرة الصوت في خطاب تلك النخب، بل زادوا عليها، لدرجة أن مناقشتهم صارت محفوفة بالمخاطر، وتجابَه بحملات التخوين، والاتهام ببث روح الهزيمة والإحباط واليأس.
وصارت الأمثلة التي يسوقونها لتعزيز خطابهم معروفة: الجزائر، فيتنام، لينينغراد.. مع تجاهل أمثلة أخرى حاضرة بقوة في التاريخ، تحررت ونالت استقلالها بتضحيات أقل بكثير، وتكاد لا تقارَن مع نماذج الدول التي تحررت بالقوة العسكرية (الهند، جنوب أفريقيا، ناميبيا..).. ولست هنا للمفاضلة والمقارنة، فلكل شعب تجربته، ولكل قضية خصوصيتها، وسياقاتها العامة المختلفة.
الجزائر، وفيتنام وغيرهما تحررت بالثورات المسلحة وبتضحيات باهظة، وكان هذا نهجها الذي ناسب بيئتها وشروطها، وكانت الظروف المحلية (طبيعة المنطقة)، والإقليمية (الدعم اللوجستي) والدولية (موازين القوى) تسمح بممارسة هذا النوع من النضال.. ليننيغراد صمدت ببطولة لسنوات، وخسرت ملايين الأرواح ولكنها أتت في سياق حرب عالمية طاحنة، مسنودة بدولة عظمى، ولم تكن تمتلك أي خيار آخر.. المهم أن هذه النماذج البطولية لم يكن يتهددها خطر التهجير والتشريد؛ فتلك الشعوب باقية في أوطانها، والمحتل لم يكن يفكر بطردهم منها..
الهند وجنوب إفريقيا اعتمدتا بشكل رئيسي على المقاومة الشعبية، وبالمناسبة خسائر جنوب إفريقيا في الأرواح (من طرفي الصراع) طوال خمسين سنة أقل من خسائر جولة واحدة من جولات الصراع العربي الصهيوني (أقل من ضحايا اجتياح بيروت 1982، وأقل من ضحايا حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله)، ولكن الفرق في النتائج لا يحتاج للكثير من الشرح.
التضحية مهمة جداً، وهي شرط أساسي للنصر، لكن المهم أن تكون ضمن سياق صحيح يؤدي إلى النتيجة المطلوبة؛ مثلا لم يقاتل شعب أكثر من الهنود الحمر، مئات السنين وهم يقاتلون الغزاة البيض، وخاضوا مئات المعارك العنيفة، وقُتل منهم الملايين.. والنتيجة معروفة.
في حرب أكتوبر 1973 استشهد نحو 15 ألف جندي عربي، وفي اجتياح بيروت استشهد نحو 18 ألف مقاتل فلسطيني ولبناني وعربي..
في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987~ 1993)، وكانت سلمية، استشهد نحو 1300 فلسطيني، وفي الانتفاضة الثانية (2000~2004)، وكانت مسلحة وعنيفة، استشهد فيها 4412 فلسطينيا، إضافة إلى 48 ألفا جريح.
وفي الانتفاضة الأولى قُتل160 إسرائيليّا، بينما في الثانية قُتل 1100 إسرائيلي، بينهم ثلاثمائة جندي، وجرح نحو 4500 آخرين. فمع أن تضحيات الفلسطينيين في الانتفاضة الثانية أكبر بكثير من تضحياتهم في الأولى (نحو أربعة أضعاف)، وخسائر الإسرائيليين بالأرواح في الانتفاضة الثانية كانت سبعة أضعاف مقارنة بالانتفاضة الأولى، إلا أنّ الانتفاضة الأولى خرجت بمكاسب سياسية وإستراتيجية أفضل بكثير، في حين انتهت الثانية بخسائر سياسية فادحة في الجانب الفلسطيني.
خسرت إسرائيل في حرب أكتوبر نحو 2600 قتيل، ومئات الدبابات والطائرات، لكن الحرب أفضت إلى كامب ديفيد وخروج مصر من الصف العربي. وخسرت إسرائيل في اجتياحها لبنان 1982 نحو 1250 قتيلاً، لكن الحرب أجبرت قوات الثورة على الخروج من لبنان.
في الحروب العدوانية الأربعة التي شنتها إسرائيل على غزة (2008، 2012، 2014، 2021) استشهد نحو 4200 فلسطيني، مقابل مقتل 98 إسرائيلياً.. يعني بالأرقام، تضحيات الفلسطينيين أربعين ضعف الخسائر الإسرائيلية. ومع أن إسرائيل تلقت ضربات عسكرية موجعة، وأهينت نرجسيتها، إلا أنها ماضية في مخططاتها التوسعية والاستيطانية، وفي عربدتها السياسية، وهيمنتها على المنطقة.
إذاً، المسألة ليست بحجم التضحيات الشعبية، ولا بحجم الخسائر البشرية في جانب العدو؛ فالنتائج تحددها الأدوات والأساليب ونهج المقاومة.. المهم هو في أي سياق إستراتيجي تأتي تلك التضحيات، وكيفية توظيفها سياسياً.
التضحية ضرورية وممكنة مهما كانت كبيرة، حين يؤمن الشعب بحتمية النصر، وإمكانية تحقيق أهدافه الوطنية، ويقتنع بجدوى الأساليب المتبعة، وسلامة الخط السياسي، حينها ينخرط كل الشعب في المقاومة، ويتحد، ويضحي بأغلى ما يملك.. ولكن على القيادة تجنب كل خسارة ممكنة، وتفادي أي تضحية ما لم تكن في مكانها وزمانها الصحيحين، عليها أن تختار المنهج والأدوات التي تحتمل أقل قدر من الخسائر..
التضحية تكون مجانية، حين تكون الأهداف حزبية وفئوية، تكون مجرد مغامرات عسكرية لا جدوى منها، بل تصبح وبالاً، وتؤدي إلى مزيد من الهزائم، وتهدي العدو انتصارات تكتيكية تمنحه المزيد من عناصر القوة والجبروت..
من يظنون أن تكبيد إسرائيل خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات والممتلكات سيؤدي إلى نهايتها عليهم أن يتذكروا أن إسرائيل في الأساس دولة ذات دور وظيفي، خُلقت لشن الحروب، واستقرارها وتوحد جبهتها الداخلية يعتمد على الحروب والشعور بالتهديد الخارجي، ولديها قدرة كبيرة على تلقي الصدمات واستيعاب مثل هذا الحجم من الخسائر.. بل إن ساحتها المفضلة، والتي تسعى إليها دائماً، للخروج من أزماتها ولفك أي ضغط دولي عليها هي الحروب والمواجهات العسكرية.. لكن «كعب أخيل» إسرائيل، يكمن في المقاومة الشعبية، التي تجردها من جبروتها، وتحرمها من فرصة استخدام قوتها العسكرية المفرطة.
من يطالبون الشعب بالتضحيات الهائلة وخوض الحروب يتجاهلون أن صراعنا مع العدو طويل وممتد، ولا يمكن حسمه بالضربة القاضية.. إنما بالنقاط، وبتراكم الإنجازات، وتطويرها..
من يطالبون بهذا النوع من التضحيات، هم غالبا في بيئات آمنة، ويعلمون أنهم سيعيشون طويلاً، ولن يمسهم سوء، ينتظرون انتهاء المعارك ليتغنوا بالشهداء، وبزغرودة أم ثكلى، وليكتبوا قصيدة عن دموع حبيسة في عيني أب مكلوم، ولينشروا صورة شاب وسيم، ليقولوا انظروا ابتسامة الشهيد (الذي خسر حياته ومستقبله).. هؤلاء يظنون أن الفلسطينيين لا يُفترض بهم أن يعيشوا كبقية البشر، وليس من حقهم أن يمتلكوا حياة طبيعية، هم مجرد أبطال وفدائيين نذروا حياتهم للشهادة والتضحية.. هؤلاء لن يضرهم لو مات الشعب كله؛ المهم أن يحيا الوطن، أو الحزب، وأن يبرهنوا على صحة مقولتهم بأن الأوطان تتحرر بملايين الشهداء.