ميساء أبو زيدان - النجاح الإخباري - سبعة وخمسون عاما استكمل خلالها الفلسطينيون نضالاتهم من كل بقاع الأرض، متسلحين بما فرضته القوى العالمية، (فور الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء فيها) من محددات كفلت لهم الانخراط بالمنظومة السائدة، فانتزعوا المكانة لحماية وجودهم وحفظ حقوقهم المشروعة. منظمة التحرير الفلسطينية؛ منها كانت الانطلاقة وبأروقتها صنعت الوطنية هوية وقرارا، الرد الذي تصدوا به لمحاولات رهن إرادتهم من قبل أطراف سعت جاهدة لاستخدام قضيتهم بما يحقق مصالحها، وتجسد واقعا عبر ما راكموه من قدرات وتضحيات. وبظل المنظمة استثمروا كل الخيارات التي اجترحوها (ذنبا) وسط محيط اعتبرها خروجا مشبوها يستهدف استقرارا؛ كانت المنطقة تشهد بداياته. ليعلنوا بذلك ما لخصه الإمام الشافعي حين قال: "ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتول أنت جميع أمرك".

قيل مرارا لكاتبة هذه السطور؛ أنها ركلت بقدميها بطن أمها إيذانا بخروجها للحياة في أحد مقرات المنظمة (الاتحاد العام للمرأة) خلال لقاء تعاون مع وفد من جمهورية الصين الشعبية، فقد كان الفلسطينيون على اختلاف تياراتهم السياسية يستثمرون حيثما حلوا ما يلوح من فرص لصالح قضيتهم، لا سيما وأنهم وظفوا التباينات السياسية باتجاه التناقض الرئيس (العدو)، وتجاوزوا قدر ما أمكنهم منعطفات حرجة كادت تنال من شرعية نضالهم واستقلالية قرارهم الوطني. تم ذلك ضمن مظلتهم الجامعة التي غدت الممثل الشرعي والوحيد لهم، واعتبرت (م.ت.ف) من قبل قوى سياسية تقدمية حول العالم عنوانا لإرادة استطاعت مجابهة نزعات القوى الرأسمالية ومخططاتها للمنطقة تحديدا، فبات الانتصار لها معيارا للحرية والعدالة.

أدرك قادة المنظمة الوجهة الأقصر لغايات شعبهم الوطنية، واللغة (الخيارات) التي ستمكنهم من التواصل وما يحيطهم، وصولا للمكانة التي سيفرضون من خلالها - رغم عديد التحديات – حقوقهم المشروعة على المجتمع الدولي، الذي يتحمل كامل المسؤولية عن جريمة التطهير العرقي التي ارتكبت في فلسطين. الواقع الذي تشكل بمراكمة ما بذل على مذبح الحرية وتقرير المصير، خاصة تلك الدماء التي سالت تحت اللافتة المعدنية التي اعتلاها في الوسط شعار احتوى المفردات الهدف (وحدة وطنية، تعبئة قومية، تحرير). وصولا للمقدرات التي نسجتها المنظمة بخيوط ثمينة كونتها مآس وعذابات وتضحيات جسام.

تحل ذكرى تأسيس (م.ت.ف)؛ بخضم مجريات يزدحم المشهد بها، تلك التي وضعت شرعية النضال والمسار التحرري برمته على المحك الدولي. الأخطر؛ هو أن الإرادة الوطنية باتت برسم المشاريع البديلة الجاهزة لإحلالها عما جاء خلاصة للثورة المعاصرة، وبعبارة أوضح؛ يبدو أن الحركة الوطنية تقف اليوم بعنوانها "فتح" في مواجهة أصعب المفترقات، حيث فقدان الجيل المؤسس الذي صاغ تاريخهم المعاصر، لجانب الهوة التي أصابت الفعل الوطني فور الانتقال بالمسار النضالي من منهجية لأخرى، بظل التحديات التي اتخذت من تأزيم المناخ الفلسطيني وتأصيل الاختلافات، قاعدة لتمرير البدائل تلك، وبالتالي فرض الحلول ذات السقوف التي لن تكفل ولا بالحد الأدنى ديمومة المسار بشقيه المتلازمين (النضال التحرري والبناء الوطني).

يمتلك أولئك الذين تبنوا الوطنية مسارا وهوية لهم، كامل الحق بالتصدي لكل ما يمكنه أن يشوه نضالات شعبهم. لكن؛ كيف لهم أن يحاججوا من رهن شعبه لآلة القتل والتدمير الإسرائيلية، واستلب حقه (للشعب) في تحديد خياره وميدانه النضالي بعيدا عن الإرادة الجامعة، ويصرخون مطالبين بالوحدة الوطنية صونا لما أزهق من أرواح وهدر من دماء، في الوقت الذي يتجاهلون فيه ما بإمكانه أيضا أن يؤدي لذات النتيجة التي يتهمون بها الآخرين ! حيث منظومة أدائنا الدبلوماسي تعاني من الضعف (دون إنكار ما يبذل من جهود فردية مضنية، استطاعت أن تثلم انتصارات في ملعب الآخر) بالمستوى الذي سيقودنا بالضرورة للكارثي من النتائج، وبالتالي هدر التضحيات التي دفعت شعوبا حول العالم لتنادي بالحرية لفلسطين. من يؤرقه استهداف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصامد في وجه آخر احتلال في العالم، عليه أن يقرأ جيدا ما الذي دفع بالعالم للاستيقاظ مؤخرا من سباته، بين ليلة صاخبة في باحات القدس العتيقة وحي الشيخ جراح، ونهارا شهد انتقال عدسة المصور نحو قطاع غزة ! من المؤكد أنه (كدافع) لا يمت للإطار المشرف على العمل الدبلوماسي بصلة، الذي انسلخ عما راكمته عقودا الدماء النازفة أمام مقرات (م.ت.ف) في الشتات، والقدس، وأم الفحم، واللد، وغزة، وبيتا في نابلس.

 

نقلا عن الحياة الجديدة