باسم برهوم - النجاح الإخباري - منذ أن بدأتُ أدرك ما أسمع وأقرأ، ارتبطت بوعي مقولة إنّ مصر هبة النّيل، هذه المقولة أطلقها المؤرّخ الإغريقي هيرودوت، في لحظة تاريخيّة اكتشف فيها الإنسان إمكانية لقاء الحضارات، وتعايشها بعضها مع بعض بدل الصّدام الدّائم. وفي حينه- قبل 2500 عام- لاحظ هيرودوت أنّه لو لم يكن نهر النّيل، لَما كانت هناك حضارة، ولكانت مصر صحراء قاحلة، لا يعيش فيها حتى الغربان، اليوم، ومع اشتعال أزمة سدّ النّهضة الأثيوبيّ، فإنك لو لمست بيدك مياه نهر النّيل لوجدتها تغلي، وأنّ رائحة الحرب تفوح بهذا الوادي الخصيب صانع الحضارات.
وعندما تكون صحفيّا فلسطينيّا، وتطلّ برأسك من بين كومة أزماتك الكبيرة، تنظر نحو الأشقاء، وعندما نظرتَ رأيتَ الأشقاء في مصر والسودان داخل أزمة مصيرية، وأنّ المسألة- بالنّسبة لهم- مسألة حياة أو موت، فالتهديد الجديد هو تهديد وجودي يضرب شريان حياتهم الأساس: نهر النّيل. في مثل هذه الحالة، لا يمكن إلا أن نعرب عن قلق كبير، وأن نتضامن بقوة مع الأشقاء.
هذا الصيف- على ما يبدو- سيكون لحظة فارقة لهذه الأزمة، فإمّا أن يتوصّل الفرقاء: مصر والسودان من جهة، وأثيوبيا من جهة أخرى، إلى تسوية تضمن تدفق مياه نهر النيل لكلّ من مصر والسودان بنسب مقبولة، وفي نفس الوقت، يتمّ ملء السّدّ في أثيوبيا على مدى أطول قليلا، أو أن يذهب الوادي إلى حرب مدمّرة، ستختلط خلالها مياه النيل بالدم.
لماذا هذا الصيف؟ لأنّه- ببساطة- سيصبح من الصّعب توجيه ضربة عسكريّة لسدّ النّهضة، لأنّه في تموز القادم، سيكون خلف هذا السّدّ حوالي 14 مليار متر مكعّب من المياه، الأمر الّذي سيقود إلى فيضانات تدمّر كلّ شيء في طريقها. الآن هناك ما بين 5 و7 مليارات متر مكعّب، إنّنا- إذًا- نعيش ذروة الأزمة، ولحظتها الحاسمة، وأنّ الحلّ- بالنّسبة لمصر- إمّا أن يكون الآن، أو سيتمّ اللجوء للقوّة، وهذا قرار صعب جدّا؛ لأن أيّ حرب ستنجم عنها خسائر اقتصادية كبيرة، وأنّ جميع الأطراف غير قادرة على تحمّل تبعات هذه الخسائر، لكنّ مصر أمام خيارات صعبة، وإنّه لا يمكن وبأيّ حال القبول بالمس بشريان الحياة الرّئيس، فالبديل هو كابوس لعين، وجفاف قاتل.
لو قدّر لهيرودوت العودة إلى الحياة؛ لشهد بأمّ عينيه، وبالملموس، كم هي مقولته صحيحة، فمصر دون النّيل تعني الموت، والشّعب المصري الشّقيق لا يمكن أن يترك الأمور لتصل إلى هذا الحدّ، من هنا فإنّ مياه النيل تغلي وبدرجة تفوق الـ100. وإذا كانت الحرب وبالا على جميع الأطراف، فإنّ التّوصّل إلى تسوية، ضمن المعادلة سابقة الذّكر، هي خير ومصلحة للجميع.
بالمناسبة السّدّ لا يبعد عن الحدود السودانية سوى 25 كيلومترا، ويقال إنّه في مناطق متنازع عليها بين البلدين: السودان وأثيوبيا. وإذا سمحت الخرطوم للطّائرات الحربيّة المصريّة باستخدام قواعدها الجويّة، فسيصبح بمقدور مصر ضرب السّدّ بسهولة. والسّؤال لماذا لا نجعل من وادي النيل صانع الحضارات، منطقة سلام وتعاون، خصوصا أن حضارات الوادي تلك اكتشفت مبكرا أهميّة الانفتاح والتعاون بدل الحروب.
مصر والسودان أشقاء، والشّعب الأثيوبي شعب صديق، لذلك من فلسطين نتمنّى أن تسود الحكمة، وأن تسبق التسوية الحرب، ولكن إذا لم تأتِ التّسوية، فلن نكون إلا إلى جانب مصر؛ لأنّها هبة النّيل، ولن نكون إلّا إلى جانب اشقائنا الشّعبين المصري والسّودانيّ.
عن الحياة الجديدة