رجب أبوسرية - النجاح الإخباري - اعتبرت زعيمة حزب الخير التركية المعارضة أميرال أكشينار الملقبة بالمرأة الحديدية، والتي كانت سابقاً عضوة في حزب أردوغان، التغير في سياسة الحكومة التركية تجاه مصر، والتي عبر عنها أكثر من مسؤول حكومي مؤخراً بمن فيهم الرئيس رجب طيب أردوغان، شخصنة في السياسة الخارجية لبلادها، طالما حذرت منها، وشنت هجوماً سياسياً على الحكومة الحالية، بما يدل على أن المحاولات التركية الرسمية الأخيرة، تجاه مصر تلقى معارضة داخلية، يتم توظيفها عادة في الصراع الداخلي على الحكم.
في حقيقة الأمر، ربما كان مفاجئاً للعديد من المراقبين والمتابعين للعلاقات البينية بين دول الشرق الأوسط، تلك اللهجة التركية تجاه الحكومة المصرية، التي أقل ما يقال عنها، إنها مختلفة عن تلك اللهجة التي اتبعتها تركيا طوال نحو عقد من السنين، رغم أن كلا الحكومتين في البلدين لم تتغيرا، وكانت العلاقة خاصة من طرف تركيا قد تجاوزت حدود الخلاف حول ملفات إقليمية بعينها، لدرجة التدخل التركي المستمر في الشأن الداخلي المصري، بعد ثورة الثلاثين من يونيو العام 2013، التي أطاحت بحكم المرشد الإخواني حليف تركيا، ومن يومها وتركيا تشن حرباً إعلامية متواصلة على مصر.
المهم أن الرئيس التركي تحدث مؤخراً عن العلاقات التاريخية بين الشعبين التركي والمصري، بعد أن كان قد نسي هذا الأمر طوال ثماني سنوات مضت، وذلك في تغيير صريح، له علاقة بإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وتحولاتها السياسية المتقلبة، ومنذ أكثر من عقد من السنين راهنت دول إقليمية ومنها تركيا بالطبع، على تغير ظنت لوهلة بأنه إستراتيجي، وربطت مصالحها به، ورغم أن تلك المراهنة سرعان ما ثبت خطؤها، إلا أن العناد السياسي الذي غالباً ما يسم الحكومات والأحزاب والقوى السياسية، التي تستند إلى أسس أيديولوجية، بقي يقيد سياسة الحكومة التركية، وفق المثل الذي يقول: «عنزة ولو طارت»، وفي كثير من الأوقات ظهرت تركيا الدولة الإقليمية المركزية كما لو كانت ملكية أكثر من الملك.
في حقيقة الأمر، أقل ما يقال اليوم بكل وضوح، إن المبادئ بعيدة عن سياسات الدول وحتى الأحزاب والقوى السياسية، ورغم أن بعض الدول تختار التحالف مع حركات شعبية أو أحزاب معارضة، في مراهنة منها على وصول تلك الحركات والأحزاب للسلطة، إلا أن الثابت دائماً هو أن الدافع ما هو إلا المصلحة الخاصة، وهذا يعتبر جوهر السياسة التركية، التي شهدت اهتماماً كبيراً بالشؤون العربية الداخلية، خاصة في ظل حكومات الأحزاب ذات البعد الإسلامي، وهذا الاهتمام لم يكن من قبل، أي منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة، ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وتركيا التي راهنت على وصول الإخوان المسلمين للحكم في الدول العربية بعد العام 2011، اعتقدت أن أبواب عودة الإمبراطورية العثمانية، التي قامت على أكتاف شعوب وثروات الوطن العربي بالذات، وليس على قواعد دول أو شعوب أخرى، قد انفتحت على مصراعيها، لكن انحسار الموجة الإخوانية تباعاً، دفع بها لمواصلة العناد السياسي من جهة، ومن جهة أخرى، ركزت اهتماماتها بثلاث جبهات دون غيرها، أولها الجبهة السورية، بحكم الجيرة، وبدافع التطلع الذي رافق الأتراك منذ عقود لمنابع النفط الذي افتقرت له الدولة التركية، وكانت ترى منابعه في شمال غربي العراق، وشمال شرقي سورية، وهي أكثر من مرة حاولت تقاسم الثروة النفطية مع جيرانها العراقيين والسوريين، مقابل مياه الفرات ودجلة التي تنبع من أراضيها وتتجه للجارتين العربيتين، وفي سبيل ذلك، ظنت أن التداخل الحدودي والسكاني من أصول قومية بين الدول الجارة، هو المدخل المناسب لذلك.
يمكن دون كثير من التفاصيل التدليل على أن الصراع بين الدول العظمى( روسيا وأميركا) والإقليمية (تركيا وإسرائيل، في سورية)، يهتم كثيراً بالنفط والغاز السوري، فروسيا التي دعمت النظام، سيطرت على موانئ تصدير النفط، في حين أن أميركا عبر «قسد» سيطرت على ثلاثة أرباع آبار النفط السوري، أما تركيا فلم تهتم سوى بالتدخل العسكري في ملفين من ملفات الشرق الأوسط، هما الملف السوري والملف الليبي، بحيث أرسلت لليبيا قوات عسكرية، لتضمن لها حصة من الثروة الليبية النفطية العظيمة، أما غزة فقد ساندتها سياسياً فقط، بهدف الإبقاء على الإخوان العرب في جيبها، كقوة تفتح لها أبواب الدول العربية تباعاً، أمام أحلامها العثمانية.
المهم أن غياب الرؤية الإستراتيجية عن السياسة، والتي غالباً ما تحيط بالسياسيين غير القادة التاريخيين، وهم أولئك الذين يديرون السياسة وفق ما هو راهن وآني، والأمثلة كثيرة، ومنها بالطبع حركة حماس، التي لولا عنادها السياسي، الذي لم يسمح لها برؤية ما هو أبعد من أنفها السياسي، لكانت جنبت الشعب الفلسطيني الكثير من المعاناة والخسائر السياسية الباهظة، وهي لو وافقت على إنهاء الانقسام عبر مدخل الانتخابات قبل عقد من السنين مثلاً، لكان الحال اليوم أفضل كثيراً لها ولغيرها.
صحيح أن القادة الشموليين والشعوبيين يتمتعون بشعبية عريضة، تجعلهم أسرى الشعارات، والسياسات العابرة، وتبعد عنهم الرؤية بعيدة النظر، لكنهم لا يصنعون مستقبلاً لشعوبهم، ولهذا فإنهم يتحولون إلى نظام الاستبداد وإلى نظام حكم الفرد، كما حدث مع تركيا التي تحولت في عهد أردوغان بالذات من نظام الحكم البرلماني لنظام الحكم الرئاسي، ولعل ابتعاد تركيا في عهده عن الاتحاد الأوروبي والاقتراب من روسيا/بوتين، وحتى من دونالد ترامب، بما في ذلك طي ملف جمال خاشقجي مقابل غض نظر السعودية عن توغلها في الشمال السوري، كل ذلك يحيل إلى أن العناد ما هو إلا أحد مظاهر المغامرة السياسية التي تسم الأحزاب والقوى السياسية ذات البعد الشمولي، التي ما زالت تجد لها ملاذاً في الشرق الأوسط بالتحديد، خاصة مع كل هذه الفوضى التي نتجت عن فتح مجتمعاته، التي ما زالت تعاني من أربعة قرون من الجمود والتخلف الحضاري، خلال العهد العثماني، بكل ما شمله من بدع وجهل وفقر واستبداد، ولا رجعة عنه إلا بتجاوزه، وملاحقة كل محاولاته للظهور مجدداً بأكثر من شكل وصورة.
عن جريدة الايام