نهاد أبو غوش - النجاح الإخباري - شتان بين الانتماء وبين التعصب الأعمى، بين النضال بمعانيه السامية والفضلى وبين السياسة بممارساتها التي لا تكون نظيفة على الدوام، مع أنه في حالتنا الفلسطينية يفترض أن تقترب السياسة من النضال وتتماثل معه إلى حد التطابق. لكن الزمن ونشوء المصالح والامتيازات، يوسعان الفارق كثيراً بين النضال بمضمونه الفدائي والتضحوي، النزيه والنقي والطاهر، والسياسة بكل ما تنطوي عليه من أمراض ومظاهر سلبية، وألاعيب ودسائس ومؤامرات تساهم في تغليب الثانوي على الرئيسي، والذاتي على الموضوعي، والمصالح على المبادئ.
أسوق هذه المقدمة لعلها تصلح للإضاءة على واقع فصائلنا وأحزابنا وقوانا السياسية، التي تتجه للانتخابات العامة وهي تجرجر نفسها مثقلة بالمشكلات والانقسامات والاستقالات وحالات الفصل، ومثخنة بجروح المعارك الداخلية، ومشغولة بذاتها وبمشاكلها الداخلية أكثر من انشغالها بالمهمات التي وجدت من أجلها، والأهم أن رصيدها خال من الإنجازات التي يمكن لها أن تتباهى بها، سواء للفئات والطبقات والشرائح التي تدعي تمثيلها، أو للشعب وللقضية بشكل عام.
فصائلنا كلها، وبلا استثناء، انطلقت من جراحات شعبنا الفلسطيني وعذاباته، وتمرده على نتائج النكبة والهزيمة والاحتلال، ونجحت في استعادة هويتنا الوطنية والحفاظ عليها، وإعادة تثبيت الشعب الفلسطيني على خريطة العالم، وانتزعت مكاسب لا يمكن التقليل من شأنها في طرح حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والمشروعة. كما أن التضحيات العظمى التي قدمها شعبنا من أجل حريته واستقلاله تمت من خلال هذه الفصائل وعبر نضالاتها وبرامجها الكفاحية.
إلا أن الزمن طال واستطال، تغيرت أشياء كثيرة في هذا العالم، انهارت دول وأنظمة سياسية واجتماعية، وبرزت دول ونظم جديدة وتحديات ومخاطر وجودية. وعرفت البشرية سلسلة من الثورات العلمية والتكنولوجية والمعرفية التي طاولت كل أنماط الحياة، إلا أن فصائلنا وتنظيماتنا ظلت صامدة كما هي، لم تتغير كثيرا لا في بناها ولا في أساليب عملها، ولا حتى في المجموعات القيادية النووية التي كانت وما زالت تقودها، ويكفي أن ندلل على ذلك بمثالين: فنظام عضوية المجلس الوطني الفلسطيني حتى في دورته الأخيرة (2018) يحدد الفصائل المشكلة له وحصة كل منها، لم تحصل تطورات جدية على ذلك باستثناء انشقاقين صغيرين على الرغم من كل المياه التي جرت تحت الجسور والحركات الجديدة التي انبثقت وتشكلت، والمثال الثاني هو أن بعض قادة فصائلنا (ولا نقصد بذلك الأمين العام فقط بل الفريق القيادي)، عاصروا الرؤساء الأميركيين التالية أسماؤهم وعددهم أحد عشر رئيساً، لخمس عشرة دورة رئاسية على امتداد أكثر من نصف قرن: ليندون جونسون، وريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد، وجيمي كارتر، ورونالد ريغان (دورتان رئاسيتان)، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون (دورتان)، وجورج بوش الابن (دورتان)، وباراك أوباما (دورتان)، ودونالد ترامب، وجو بايدن!
هل شعبنا عاقر ؟ وهل حركتنا الوطنية عقيمة إلى هذه الدرجة التي تخلّد فيها قادتها وتنصّبهم مدى الحياة؟ على الرغم من أن بعضهم لم يبارح مكانه منذ عشرات السنين، ويقودون أحزابهم من فشل إلى آخر، أم أن المشكلة تكمن في طبيعة فصائلنا وأحزابنا التي تحولت من بنى سياسية اجتماعية معاصرة، ثائرة ومتمردة على نتائج النكبة وعلى الاحتلال وقيوده، إلى تشكيلات عشائرية وقبلية مغلقة، تقدس ما هو قائم، وتأبى التغيير، وتغلق الأبواب والنوافذ أمام الهواء المنعش، وتضيق بالأفكار النقدية والمختلفة، وتعتقد أنها دائما على صواب، وتدعي أنها تتعرض دائما لمؤامرات خبيثة.
من الطبيعي أن تتأثر المؤسسات السياسية والاجتماعية، وحتى الشركات والمؤسسات الاقتصادية، بالثقافة السائدة والعادات والتقاليد، ففي مجتمعاتنا العربية بشكل عام ورثت أحزابنا وتشكيلاتنا السياسية البنية الأبوية البطريركية للمجتمع العربي، وهي بنية موروثة عن عهود الإقطاع الطويلة، المعروفة بركودها وانغلاقها. فكلام الأب في الأسرة لا يناقش، وكذلك شيخ العشيرة والقبيلة وصولا إلى الحاكم أو الملك أو السلطان، طاعتهم واجبة وعصيانهم إثم، وأوامرهم واجبة التنفيذ من دون نقاش. أما أن تنتقل هذه البنى لأحزاب وفصائل مهمتها الثورة والتغيير، فهي وصفة مؤكدة للحد من قدرة هذه الأحزاب على القيام بالمهمات المتوقعة منها.
لا تقتصر المؤثرات العشائرية والبطريركية على تخليد القيادة وتقديس قراراتها، بل يمتد ذلك ليشمل الحساسية المفرطة تجاه النقد والأفكار المختلفة، والرضا المطلق عن الذات، وتقريب المنافقين والمرائين، والتعصب الأعمى تجاه الآخرين، سواء كانوا شركاء أو حلفاء، أو حتى خصوما ومنافسين، ولسان حال منتسبي الحزب/القبيلة هو ما قاله الشاعر الجاهلي دريد بن الصمّة قبل ألف وخمسمائة عام "وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد".
وأخيرا، ليس عيبا أن نتعلم من عدونا بعض السمات الحداثية والعلمية التي ساهمت في قوته، ووجود العكس لدينا ساهم في ضعفنا، وهي في الحقيقة ليست سمة إسرائيلية أو صهيونية، بل من نتائج الثورات الديمقراطية البرجوازية في أوروبا، ومن بين هذه السمات أن الأحزاب ليست معطى نهائيا ثابتا ولا مقدسا، ولا القادة والزعماء كذلك، حتى لو حققوا إنجازات عسكرية وسياسية باهرة، فلكل مرحلة أدواتها ورموزها. إذ أن حزب العمل الذي أسس دولة إسرائيل وقادها لعقود يتعرض الآن لخطر الاندثار، ويصارع في الانتخابات المقبلة قرب نسبة الحسم، وسبق لبعض قادته البارزين مثل شمعون بيرس وإيهود باراك وحتى عمير بيرتس، أن انشقوا عنه، والتحقوا بأحزاب أخرى أو أسسوا أحزابا جديدة، وأرييل شارون انشق عن حزبه الليكود حين كان في السلطة، ولكنه وجد أن الحزب وبناه القائمة تعيق تنفيذ مشروعه السياسي.
في فلسطين، ليكن التعظيم والتمجيد للوطن والقيم الخالدة كالحرية والعدالة والكرامة، لا للبنى القابلة للتغيير والأفراد الذين هم في نهاية المطاف بشر يصيبون ويخطئون.
عن صحيفة القدس