نهاد أبو غوش - النجاح الإخباري - المظاهرة العملاقة في أم الفحم التي نظمتها جماهيرنا في الداخل، وأسميت "جمعة الغضب" حملت مجموعة من الرسائل المهمة لمؤسسات الدولة الصهيونية، ولكل من يهمه الأمر، وجاءت هذه الفعالية الجماهيرية الحاشدة على أعتاب الانتخابات العامة للكنيست الـ 24، ورئيسه بنيامين نتانياهو، وأطماعه في الحصول على حصة وافرة من أصوات العرب.
المظاهرة الكبرى، شارك بها أكثر من خمسة عشر ألف مواطن عربي رغم القيود التي وضعتها الشرطة لمنع وصول المشاركين. وقد نظمت المظاهرة للاحتجاج على الجريمة وتواطؤ الشرطة الإسرائيلية مع عصابات الإجرام، والإهمال المتراكم لقضايا الجماهير العربية، وتهميش القرى والبلدات والمدن العربية، وحرمانها من أبسط الخدمات، ومن مشاريع التطوير والتشغيل. والتمييز العنصري المرسّم قانونيا، فضلا عن عدوانية الشرطة والأجهزة الأمنية التي تعتبر كل عربي متهما حتى يثبت براءته. ونتيجة لكل ذلك، اكتسبت المظاهرة طابعا سياسيا، فهي مظاهرة الجماهير العربية الفلسطينية بأسرها من الجليل والمثلث إلى النقب والساحل والمدن المختلطة، وهي أيضا مظاهرة وطنية سياسية حمل فيها المشاركون الأعلام الفلسطينية تعبيرا عن هويتهم وانتمائهم لشعبهم العربي الفلسطيني.
وتذكّر هذه المظاهرة، بسلسلة من الفعاليات الكبرى التي ارتبطت في زمنها بوقائع ظرفية محددة، ولكنها اكتسبت مع الوقت قيما تاريخية متنامية في التأكيد على هوية فلسطينيي الداخل، ووعيهم لذاتهم كأقلية قومية تخوض نضالا مركبا في سبيل حقوقها الوطنية والقومية ضد محاولات شطب الهوية والاستلاب من جهة، ومن أجل حقوقها اليومية والمدنية والاجتماعية ضد ممارسات التمييز العنصري. ومن ابرز تلك المحطات أحداث يوم الأرض الخالد في آذار 1976، ومظاهرات أم الفحم والمناطق المحيطة دفاعا عن أراضي الروحة عام 1998، وأحداث الثاني من تشرين الأول عام 2000 رفضا لجرائم قتل أبناء شعبهم الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى والقدس، وفعاليات الاحتجاج ضد مخطط برافر في العام 2013، إلى جانب عشرات المواجهات المتفرقة في مختلف مناطق النقب والمثلث والجليل.
المظاهرة الكبرى هي رد جماعي على محاولات نتانياهو النفاذ من شقوق الخلافات الداخلية، واختراق الجمهور العربي من أجل شطب البعد الوطني والقومي في الانتخابات المقبلة، ومعاملة الصامدين من شعبنا في الداخل باعتبارهم سكانا وأصحاب حقوق معيشية فقط من دون حقوق وطنية وسياسية، وتغليب البعد الخدمي والتنفيعي، على حساب المصالح الجماعية لنحو مليون وثلاثة أرباع المليون فلسطيني ممن بقوا في وطنهم على الرغم من عمليات التطهير العرقي، وحافظوا على هويتهم وانتمائهم حتى بعد أن فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية.
لقد مكّن وعي الفلسطينيين في الداخل لهويتهم وذاتهم وحقوقهم الوطنية، من مضاعفة قوتهم السياسية دورة بعد أخرى لانتخابات الكنيست، وهو ما بلغ ذروته في انتخابات الكنيست المنحلة (الـ 23) ، بحصولهم من خلال القائمة المشتركة على 15 مقعدا، وهي قوة لا يستهان بها ساهمت في منع نتانياهو من تشكيل ائتلاف حكومي مستقر، وبشّرت بما يطمح له العرب دائما وهو صعوبة تجاوزهم في أية حسابات سياسية مقبلة.
ومن دون الدخول في تفاصيل الخلاف الذي تفجر بين مكونات القائمة المشتركة، وانشقاق جناح "الإسلامية الجنوبية"، ينبغي التأكيد على أن قوة التمثيل العربي هي المستهدفة، وأن هدف المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة بكل مكوناتها هو العودة إلى عصر التمثيل المزيّف في الخمسينات والستينات، حين كان حزب العمل الحاكم وقتها يصطنع قوائم عميلة وملحقة من المخاتير والوجهاء، ولا تعنيها السياسة والهوية الوطنية بتاتا، ويكتفي ممثلوها في جلب المنافع الهزيلة من قبيل تصاريح الحركة ورخص البناء والمصالح الحرفية.
فالفلسطينيون العرب في إسرائيل يشكلون نحو 21 في المائة من السكان، وبسبب السمات العمرية يشكلون نحو 17 في المائة من أصحاب حق الاقتراع، ولكن أقصى ما حصلوا عليه من تمثيل لا يزيد عن 12 في المائة مما يستحقون، ويعود ذلك لأسباب عديدة منها مقاطعة بعض الاتجاهات والتيارات السياسية مثل الجناح الشمالي للحركة الإسلامية، وحركة أبناء البلد.
بشكل عام تصل نسبة مشاركة الفلسطينيين في انتخابات الكنيست إلى نحو 60 في المائة، وهي عادة أقل من نسبة إجمالي المشاركة اليهودية بنحو عشر نقاط مئوية .
المشاركة في انتخابات الكنيست لم تتناقض أبدا مع الهوية والانتماء الفلسطيني حسب اجتهاد معظم القوى الفاعلة في أوساط فلسطينيي الداخل، بل إنها تمثل منصة إضافية للنضال من أجل الحقوق السياسية والمدنية، ولكنها ليست بديلا عن أشكال النضال الأخرى وخاصة الجماهيرية والثقافية والقانونية، والمهم أن القوى السياسية العاملة في أوساط جماهيرنا في الداخل، بلغت من النضج والرشاد درجة لم تعد معها بحاجة إلى وصاية أو توجيهات من أحد، وهي ترى أن مهمتها المركزية تتمثل في زيادة نسبة الاقتراع، وحرمان الأحزاب الصهيونية من أصوات العرب، وزيادة التمثيل العربي في الكنيست.
مظاهرة أم الفحم، التي كان وصفها الفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي بأنها "الاسم الحركي لفلسطين"، هي محطة جديدة لنضال شعبنا في الداخل من أجل حقوقه السياسية والاجتماعية.
عن صحيفة القدس