نابلس - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - في شهر كانون الثاني الماضي صدر تقرير منظمة الشفافية الدولية حول مستويات الفساد العالمي. التقرير جاء عن العام 2020 وشمل تقييم 180 دولة ليست فلسطين واحدة من بينها. غياب فلسطين ربما دفع الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) إلى تنظيم استطلاع حول واقع الفساد ومكافحته في فلسطين عن العام 2020 أيضاً. وتكون بذلك قد نقلت المواطنين من الحكم على وجود فساد عبر التكهنات، الى مشاركة المواطنين المنظمة عبر معايير حددتها جهات الاختصاص للتعرف على مشاكل الفساد وتقييمها وإيجاد الحلول التي تخفف من انتشارها. هذا التدخل من قبل (أمان) يشكل إضافة مهمة للأعمال التي من شأنها التغيير نحو الأحسن، ثم عل وعسى ان تعود فلسطين لتحتل موقعها في التقرير الدولي اسوة بغيرها من البلدان.
قبل مناقشة تقرير (أمان) دعونا نلقي نظرة سريعة على تقرير منظمة الشفافية الدولية حول الفساد. التقرير ينظر الى منطقة الشرق الأوسط كمنطقة شديدة الفساد، حيث تقع دول الصومال وسورية واليمن والسودان وليبيا في المواقع المتأخرة كأكثر الدول فساداً. وتقع بلدان كالعراق ولبنان وجيبوتي وموريتانيا ومصر والجزائر في الثلث الأخير في الوقت الذي لم تتجاوز فيه دولة المغرب 42 %. اللافت للنظر ان دولا كالإمارات أخذت ترتيب 21 كأول دولة عربية تليها قطر بترتيب 30 وعُمان بترتيب 49 والسعودية بترتيب 52. وإذا كان ترتيب أوائل الدول كالدنمارك ونيوزيلندا وسنغافورة والسويد وسويسرا، وكذلك ترتيب أواخر الدول لا يثير جدلاً بما في ذلك تراجع مكانة دولة الاحتلال الإسرائيلي الى الرقم 35 من 22-27 الى 35 من حيث انسجامه مع المشهد الذي يتراءى للمراقبين وللرأي العام ، فإن الدول العربية الأربع التي نجحت او اقتربت من النجاح وقُدمت على انها افضل أربع دول عربية يثير الكثير من التساؤلات حول دقة التشخيص ومعاييره. البلدان الأربعة لا يوجد فيها برلمانات ولا انتخابات، ولا تنتمي للدول التي تسمح بحرية التعبير ولا للحريات العامة، وسجلها في انتهاكات حقوق الإنسان بما في ذلك انتهاك حقوق العمالة من الخارج التي تشكل أكثرية السكان وقوانينها تحظر حرية تشكيل أو الانتماء لأحزاب ونقابات، كل هذا يكفي لخسارتها هذا البند بسهولة ويسر، إلا إذا وضع بند قمع الحريات بأشد أشكال القمع خارج إطار الفساد، والدول المذكورة تنتمي لنظام اقتصادي ريعي تهدر عبره الأموال بلا حساب على الأسلحة المتطورة وأنظمة التجسس الحديثة وشراء الفرق الرياضية والقصور، وتهدر الأموال أيضاً على إعلاميين ومثقفين وأكاديميين وفنانين بوظيفة مصطنعة لتجميل صورتها وإخفاء انتهاكاتها.أين بند الشفافية في الإنفاق المنصوص عليه في مبادئ منظمة الشفافية الدولية والذي من المفترض أن تستند له في تقييمها. ثم هل خضعت تلك الدول لنظام رقابة مستقل؟ ما معنى «تحويل الموارد العامة الى غير مقاصدها». ما علاقة فساد أقل، بالحروب والاحتلال والاستيطان وسرقة موارد الشعوب وارتكاب المجازر وخنق شعوب بالحصار والفقر والإذلال؟
قد يجيب البعض بأن ما ذكرته ينتمي الى الحقل السياسي ويندرج في حقل انتهاكات حقوق الإنسان، ولهذا او ذاك مجالات خاصة للتقييم تجدها في تقارير منظمات حقوق الإنسان، وتقارير الحكم الرشيد. ردي على ذلك ان ما ذكرته يستند الى مبادئ في الشفافية. كما انه لا يمكن فصل الإهدار المالي للموارد عن الفساد، ولا يمكن فصل قمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان عن النزاهة والشفافية والأخلاق والحق في الحصول على المعلومات. منذ ان قرأت تقرير الشفافية الدولية لم أعد أصدق بأن القائمين على التقرير يلتزمون معايير ومبادئ الشفافية، ثمة شيء خطأ.
ننتقل الى استطلاع (أمان) حول واقع الفساد ومكافحته في فلسطين لعام 2020. أهم ما جاء في الاستطلاع أن 56% من المستطلعين قالوا ان الفساد ازداد في فلسطين. البند الذي يحدد المشكلات التي تحظى بأولوية عندهم 26 % قالوا ان الوضع الاقتصادي يحظى بأولوية للمعالجة، و25% قالوا ان الفساد يحظى بأولوية للمعالجة، 21% قالوا ان الاحتلال يحظى بأهمية للخلاص، وقال 14% أن الانقسام يحظى بأولوية. قراءة الأولويات صادمة لجهة اعتبار الخلاص من الاحتلال ليس أولوية. هذا مؤشر خطير يفسر التعايش الموضوعي مع الاحتلال بوجود ثقل كبير للازمة الاقتصادية وتداعيات الفساد والانقسام. هذه العينة التي خضعت للاستطلاع تقرع جرس الإنذار، وتطرح أسئلة من الوزن الثقيل حول التعبئة الوطنية والمجتمعية. ان حل قضية الفساد كاهتمام من الدرجة الثانية يرتبط بأولوية حل الضائقة الاقتصادية، ويؤكد ما جاء في البند الأول من الاستطلاع الذي تقول فيه أكثرية بأن الفساد زاد.
وعن أشكال الفساد، أيد 23% من المستطلعين وجود الواسطة والمحسوبية كشكل اول للفساد، وقال 35% من المستطلعين انهم استعانوا بالواسطة للحصول على خدمة عامة مقابل 20% أشاروا الى اختلاس أموال عامة كشكل للفساد و13% اعتبروا ان شكل الفساد هو إساءة استعمال السلطة والرشوة. لا تزال الواسطة والمحسوبية لا سيما عمليات التعيين والترقية تحتل الحيز الأول في الفساد، ويبدو ان هذه المشكلة يعاد إنتاجها من داخل السلطة ومؤسساتها، ويلجأ لها المجتمع كتحصيل حاصل. أما معالجة الفساد قال أكثرية من 48% من المستطلعين إن هيئة مكافحة الفساد غير فعالة، مقابل 46% قالوا انها فعالة. قال 32% قالوا انهم لم يروا محاسبة لكبار الفاسدين. وارتأى 30% عدم جدية في محاسبة الفاسدين، واعتبر 77% من المستطلعين أن الهيئة غير مستقلة بسبب التدخلات الرسمية في عملها.
وقال 85% ان دور الإعلام ما بين ضعيف او متوسط في الكشف عن قضايا الفساد . وقال 69% بوجود فساد في المحاكم والنيابة العامة، واعتبر 79% أن العقوبات المفروضة على مرتكبي جرائم الفساد غير رادعة.
النتيجة الأهم التي يمكن استخلاصها من الاستطلاع، هو ان هيئة مكافحة الفساد، ستبقى محدودة الفعل والتأثير طالما بقيت خاضعة بشكل وبآخر للسلطة التنفيذية. ولا بديل عن استقلال هذه الهيئة، المرتبط بتوفير الحماية لها. كما لا يمكن العمل ضد الفساد بمعزل عن لجان رقابة مستقلة، وبمعزل عن حرية التعبير وعن دور استقصائي لإعلاميين مستقلين ومحميين بالقانون.
الملاحظة الجديرة بالتوقف عندها هي اقتصار الاستطلاعات على العمل الحكومي، وتجاهل أطراف أخرى غير حكومية لها باع طويل في الفساد، كبعض رجال الأعمال الذين لا يلتزمون بدفع الحد الأدنى للأجور لأكثر من 100 ألف عامل، والذين يمارسون تهرباً ضريبياً، ويرفضون الضريبة التصاعدية، وينقلون الأموال للخارج بدلاً من استثمارها في أعمال إنتاجية، وهم الفئة المسكوت عن فسادها والتي لا تقل سوءاً عن الفساد الحكومي.
نقلاَ عن جريدة الأيام