عاطف ابو سيف - النجاح الإخباري - يأتي مرسوم الرئيس، المتعلق بالحريات العامة، ترجمة لفهم جوهر الواقع الجديد الذي يجب أن يتمتع به الناس وهم يمارسون حقهم الطبيعي في اختيار ممثليهم في العملية الديمقراطية القادمة. وهو يشكل ضمانة بأن يتم صون الحريات ومواقف المواطنين بوصفهم أفراداً أحراراً في اتخاذ القرارات الصائبة وفق ما يعتقدون، من دون إكراه، ومن دون ضغط أو خوف. إن مثل هذه الحريات هي التي تصون جوهر العملية الانتخابية القائمة على الحرية في الاختيار. والمواطن حين يضمن أن أحداً لن يلاحقه ولن يعاقبه ولن يردعه عن التعبير عن رأيه وممارسة حقه، فإنه بكل تأكيد سيكون من جهة أكثر حرية في اتخاذ ما يراه مناسباً من قرارات، كما سيتمتع بالاستماع لآراء الآخرين المتفقين أو المختلفين معه.
لقد شاب فترة الانقسام (بالطبع هناك من سيقول: لم ينته الانقسام بعد، وهو محق) انتهاك كبير لحريات الأفراد ولمقدرتهم على التعبير عن رأيهم، وممارسة حقهم البسيط في الجهر بما يعتقدون، أو ممارسة ما يؤمنون به من آراء ومعتقدات. بل كان يمكن لبوست صغير على «فيسبوك» في غزة أن يودع صاحبه في السجون وأقبية التحقيق والتعذيب المرير. بجانب أن الانتماء السياسي والتنظيم كان تهمة بحد ذاتها تعرّض صاحبها للملاحقة والمداهمة وتفتيش بيته، ومن ثم إيداعه في السجون.
كانت تلك الممارسات سمة بارزة في مرحلة معينة. ودفع الكثيرون ثمنها بقسوة وبلا رحمة. وربما أن من عانوا من تبعات غياب الحريات وانتهاكها، وتعرضوا للتعذيب والشبح والاعتداء الجسدي والمعنوي خلال تلك الحقبة، وحدهم من يمكن لهم أن يفهوا ما معني إطلاق الحريات العامة وصونها وحمايتها. كانت تلك السنوات الصعبة أكثر فتكاً بالكثيرين من قهر الاحتلال، وكان تحملها يشكل معجزة. وربما أن بعض المعتقلين السياسيين ما زالوا في السجون منذ أكثر من عشر سنوات ينتظرون اللحظة التي سينعمون بها بالحرية. هذا مؤلم ومعيب بالطبع حين ننظر إلى تفسيرات التاريخ لهذه الأحداث في المستقبل. إن ضمان ألا يتم التعرض للفرد بسبب ما يعتقده ويؤمن به من أفكار وحماية سلة حقوقه المدنية، وحده يمكن أن يجعل العملية الانتخابية أكثر شفافية ونزاهة.
نعم نحن بحاجة لضمان حرية الأفراد وحقوقهم في ممارسة تلك الحرية. فالعملية الانتخابية ليست في نهاية المطاف إلا عن ممارسة حرية الاختيار. وإذا لم يأمن المواطن عواقب اختياراته أو تعبيره عن مواقف السياسية خلال العملية الانتخابية وبعدها، فإنه لن يتمكن من ممارسة هذا الحق بحرية. من هناك ارتبطت الديمقراطية دائماً بالحرية. وعبر ممارسات الشعوب والخبرات السابقة يصعب خلق سياق ديمقراطي من دون أن تسود الحريات المدنية وأن يتم ضمان ممارسة الأفراد لها. وهذا ليس منة، إنه أساس مفهوم المواطنة الحقيقية. فالفرد والمواطن غير الحر لا يستطيع أن يمارس قناعاته السياسية، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يساهم في خلق سياق ديمقراطي حقيقي. وربما سبقت المناداة بالحرية مطالب التمثيل الديمقراطي في الخبرات السابقة. فالأفراد بدؤوا ينادون أن يكونوا أحراراً ثم كانت نتيجة تلك الحرية البحث عن القاسم المشترك مع الأفراد الآخرين. وكان ترجمة هذا بالعقد الاجتماعي الذي هو أساس تقاسم المواطنين للحياة المشتركة، وتنظيم شؤون الأفراد في تشكيل سياسي يعبر عنهم. من المؤكد أن المطالب بالحرية كانت تعني ألا يقوم أحد بمصادرة حق أحد آخر، ولا تقوم جهة ما بممارسة القمع والاستبداد على مجموعة أخرى. فأساس كل ذلك أن الأفراد متساوون في الحقوق كما في الواجبات، وأن ممارسة أي جهة القوة ضدهم يجب ألا يشمل مصادرة حريتهم.
وحده العقد الاجتماعي الذي ينظم هذه العملية. لأنه أيضاً وفي سياق غير منضبط، فإن حرية الأفراد تتعارض ويمكن لها أن تتصادم وتقود للعنف. لذلك فإن ترك الأفراد للطبيعة يمكن له أن يفتك بحريتهم المنشودة. المحقق أن الفرد لا يمكن له أن يعيش بمعزل عن الجماعة. والمحقق أن الجماعة لا يمكن لها أن تكون ترجمة حرفية عن إرادة الأفراد. الحاجة لتنظيم العلاقات داخل الجماعة يتطلب أن يتفهم أفرادها أن عليهم أن يتنازلوا عن جزء من حريتهم لصالح الجهاز الأعلى الذي ينظم الحرية العامة. وفي كل الأحوال، فإن هذا الجهاز يتعهد بحماية حريات الأفراد وعدم المساس بها، والعمل على حمايتها وردع من يريد أن ينتهكها.
خلال لقاءات مختلفة لي في غزة، سمعت ربما ليس صدفة كلمتين مفتاحيتين. تتمثل الأولى بالعقد الاجتماعي، فيما الثانية بالحاجة لضمان الحريات العامة. وكان هذا قبل صدور المرسوم الرئاسي. هناك قلق من المستقبل، فبعد فترة قرابة عقد ونصف العقد دفع خلالها جيل كامل فاتورتها، الجيل الذي انتقل من الطفولة إلى الشباب خلال فترة الانقسام، فإن النظر للمستقبل يحتاج وجود ضمانات بأن يتم صون الطريق نحو المستقبل. وهذا لا يتم إلا بوجود عقد اجتماعي جديد يكون الضمان الذي يحكم علاقات الأفراد فيما بينهم وفي علاقاتهم مع أجهزة الدولة. إن من عاني ويلات الانقسام وتعذب، وتمت ملاحقته بسبب رأي أبداه، يعرف أن العقد الاجتماعي الذي يتفق عليه الجميع هو جوهر المرحلة المرجوة.
نفس الشيء فيما يتعلق بالحريات العامة. سألني أحدهم إذا ما كان ثمة ضمان بأنه لن يتعرض للاعتقال بسبب رأيه بعد الانتخابات. الانتخابات هي تعبير عن حرية الرأي والموقف. لكن الأساس أيضاً هو ما بعد الانتخابات. لذا، فإن ضمان الحريات العامة يجب أن يشمل ضمانها بعد الانتخابات؛ لأننا نتطلع إلى مستقبل أفضل، مستقبل نستطيع فيه أن نكون أحراراً حتى نصبح أحراراً بشكل كامل بعد أن نتخلص من الاحتلال، ولا حرية إلا حرية الأرض في هذه الحالة.
عن جريدة الأيام