طلال عوكل - النجاح الإخباري - ما يجري في الولايات المتحدة منذ بعض الوقت، يحمل مؤشرات ذات طابع تاريخي.
ربما كان حقدنا على الولايات المتحدة، لكونها الدولة الاستعمارية الكبرى التي حملت المشروع الصهيوني على كفوف الراحة، ربما كان ذلك يضفي شبهة على التحليل الذي يصل إلى استنتاجات مرغوبة، رغم ذلك، فإننا نحاول جهدنا أن نفهم كنه ما يجري ومآلاته.
إذا كانت الرغبة والأمل، في أن نرى انهياراً سريعاً للدولة الاستعمارية الأقوى والأكبر، فإنه من غير المعقول، أن يتجاهل المرء أن ذلك يتطلب وقتاً، دونه مقاومة عنيدة، لكنها لا تستطيع معاندة الزمن ومساراته وسياقاته.
خلال السنوات الأخيرة، كل حركة صدرت عن الولايات المتحدة، سواء كانت على صعيد السياسات العامة، أو الحراكات الداخلية، كانت تشير إلى سمة تاريخية.
الرئيس ترامب شخصية تاريخية بحق، فهو من نوع الرؤساء الاستثنائيين في رؤيته وإدارته للسياسة العامة الأميركية، حيث إنه نسف تقريباً كل مقومات السياسة الأميركية التقليدية، وأحدث انقلاباً فظاً على سياسات الإدارة الديمقراطية التي سبقته.
حتى سماته الشخصية، من الوقاحة، إلى التبجّح، إلى الوقاحة في إعلان المواقف إزاء الحلفاء وغير الحلفاء، وإلى طريقته الاستعراضية، واقتحامه الممنوع، كل ذلك يدل على أنه شخصية تاريخية بامتياز في مرحلة تاريخية، تمر بها بلاده والعالم. إنه رئيس لا يخفي عنصريته، وتحريضه على العنف واستعداده لتجاوز الدستور، والقيم، وآليات الديمقراطية كما هي معروفة في الدولة الديمقراطية الأقوى.
الانتخابات التي جرت حملت هي الأخرى سمات تاريخية، منذ ما قبل الحملات الانتخابية، إلى ما جرى خلالها، وما نجم عنها، فلقد تصرف ترامب على قاعدة «إما أنا أو الطوفان».
طوال الوقت وهو يتهم الأجهزة المسؤولة عن الانتخابات، ويتهم القضاء، والإعلام بالفساد والتواطؤ على سرقة فوزه، وكأنه بذلك يتهم خصومه ويتهم مؤسسات الدولة، والمجتمع، إلى الحد الذي جعله يندفع في معارك قضائية خاسرة، ولم يسلم بعض أعضاء حزبه من الاتهامات، كانت الذروة، حين دعا جمهوره للتظاهر أمام الكابيتول أثناء اجتماع الكونغرس، لمنعه من إقرار النتائج التي قدمها المجمع الانتخابي، على أن الجمهور الغاضب والذي تعرض لتحريض بشع، اجتاح قاعات المبنى، وعطل اجتماع النواب، وارتكب لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، جرائم لا يمكن المرور عليها من دون عقاب، خمسة قتلى، وعشرات الجرحى وتكسير محتويات المبنى، بالإضافة إلى الاعتداء على الصحافيين وتكسير أدواتهم، لولا أن ترامب فقد الأمل في أن يؤدي ذلك إلى الانقلاب الذي يريده.
وعملياً كان خطاب ترامب، بعد عملية الاقتحام للمبنى وكأنه تحريض أكثر منه دعوة للتهدئة، حيث عاد ليقول إن الانتخابات مزوّرة ولكن عودوا إلى بيوتكم.
لم يبق من يساند ترامب سوى القليل من الجمهوريين، الذين هم أيضاً لم يستطيعوا تبرير ما جرى من دون استنكار، حتى أن بعضهم قال إنها محاولة انقلابية.
أصيب ترامب بخيبة أمل حين رفض نائبه بنس كرئيس للكونغرس الاستجابة لطلبه بعدم الموافقة على التصديق على نتائج الانتخابات، وهو ـ أي نائب الرئيس ـ يفكر في إمكانية عزله.
الدعوى على أعلى مستوى، تدعو إلى إقالة الرئيس ترامب وعزله وفي كل الأحوال فإنه لن ينجو من الملاحقة القضائية، فيما يفكر هو فيما تبقى من وقت حتى العشرين من الجاري، بإصدار عفو رئاسي يشمله بالإضافة إلى عائلته وصهره كوشنير وربما بعض المستشارين المقرّبين منه.
ترامب لا يزال يعاند، رغم إقرار الكونغرس بفوز بايدن، وفي أقل التصرفات فإنه يعلن أنه لن يحضر مراسم التنصيب، أي أنه لا يزال يرفض التسليم بشكل واضح بنتائج الانتخابات.
ولولا أن الشبهات تحيط بالرئيس ترامب من كل جانب، بما في ذلك معظم أركان إدارته، ما يضعف صلاحياته في اتخاذ قرارات خطيرة فربما كان أصدر أمراً لترسانته الحربية في الشرق الأوسط لشن عدوان على إيران، يمكنه بعد ذلك من إعلان حالة الطوارئ العامة في البلاد.
كانت المؤشرات قوية، نحو أن تبادر الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إحداث فوضى في المنطقة برمتها، لكن الشبهات القوية حول ترامب، والانهيارات المتلاحقة في إدارته، حيث قدم عدد ليس قليلا منهم استقالاتهم قد منعته من ارتكاب مثل هذه الحماقة.
مرحلة ترامب برمتها منذ يومها الأول حتى نهايتها، تنطوي على أبعاد تاريخية وتشير إلى انعطافة حادة، في مكانة ودور الولايات المتحدة ومدى تحكّمها في النظام العالمي الذي يشهد تغيرات جذرية متسارعة.
من غير الممكن أن تصدر السياسات التي نفذها ترامب عن رئيس غير مؤهل، أو أنه ذو مواصفات استثنائية عابرة، مخالفة للتحولات الجارية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
إنه ليس رجلاً مجنوناً، وفقط، وقد حصل على أربعة وسبعين مليون صوت في الانتخابات الأخيرة.
لقد قرأ ترامب السياق الذي تتجه نحوه التحولات الدولية، ولذلك فإنه حاول أن يفرمل هذا الحراك، وأن يطيل عمر زعامة الولايات المتحدة للعالم.
المشكلة هي أن قوة الحراكات الاجتماعية الداخلية، وقوة الحراكات الدولية، أقوى بكثير من أن يستطيع ترامب أو غيره وبالطريقة التي اتبعها، أن يوقف عجلة التاريخ.
لقد قوبلت سياسات ومواقف ترامب بالرفض والاستهجان حتى من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، ذلك أنه تطاول على النظام الديمقراطي، الذي يتغنى به هؤلاء، حتى رئيس الوزراء البريطاني جونسون الذي يشارك ترامب بعض الصفات، ولكونهما زعيمين شعبويين، لم يتمكن من إمساك لسانه، فبادر إلى استنكار ما جرى.
بالإجمال فإن الولايات المتحدة، تتجه نحو مرحلة صعبة، قد تشهد المزيد من الانقسامات بما في ذلك في الحزب الجمهوري، والمزيد من الفوضى والعنف، واتساع دائرة العنصرية.
في هذا السياق، من المهم أن نلاحظ مدى التشابه والاختلاف بين التكوينات الاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة، وبين إسرائيل، لكي نرى مآلات الثانية، وهذا موضوع بحث آخر.