عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - لم يكن الشيخ داود صديقي، وبالكاد كنت أعرفه، ولم نتبادل معاً سوى بعض المجاملات السريعة، وأحياناً بعض الخواطر اللبقة بقرار مسبق من كلينا لكسر رتابة الأحاديث التي كنا نسمعها على مضض في الجلسات القليلة التي جمعتني به، أو بعض تلك الأحاديث للدقة.
لكنني مع ذلك أدعي معرفة عميقة بسيرته ومشواره، وهمومه وهواجسه، كما هي مواقفه وشجاعته وصلابته وقدرته المدهشة على الفرح، والتصاقه بالفقراء وعمق انتمائه لوطنه وشعبه، وإيمانه الراسخ بحتمية انتصاره.
لديّ من الأصدقاء من هم على صلة يومية به، ومن هم من المعجبين والمبهورين بشخصيته، ومن يحفظون له كل موقف، وكل حدث، وكل مفارقة من مفارقات حضوره الطاغي وجاذبيته المبهرة.
الشيخ داود موضوع دائم على جدول أعمال جلساتنا في أريحا وعمان وأينما التقينا.
الشيخ داود عريقات لكل واحد منا حصة في تعليقاته الساخرة والساحرة، وله لدى كل واحد منا حصته من احترام وتقدير ومحبة، وإجلال وإعجاب عزّ مثيله.
الشيخ داود عريقات عاش مناضلاً يحمل على كتفيه وطنه بكامل المواصفات، وكامل المسميات، من السليب والمغتصب إلى المحتل والمصادر. ومن المستباح والمنتهك إلى المقسّم والمهشّم.
مقابل هذه الوطأة وأتعاب الكاهل كان الشيخ الفذ، المتفرد والفريد يحمل في ثنايا روحه وتلابيب وجدانه، وعلى رؤوس أصابعه الرشيقة الذكيّة لحن الصمود ولحن الخلود، وكأنّ إيقاع الوتر ليس سوى الصدى لنبض القلب وخفقانه المنساب والمتعثّر.
لو كنت روائياً لما ترددت لحظة في تتبع سيرته الكفاحية؛ لأن هذه السيرة هي رواية مكتملة، وهي ملحمة انتماء متوهج، وهي عنوان بطولة لم تعترف أبداً بالمستحيل.
وكما كتبت صباح هذا اليوم للمبدعة المثابرة الجميلة سهام داود، أميرة التوثيق وحارسة التخليد فإنني أكرر هنا أن الشيخ المناضل هو موضوع رواية عظيمة قادمة.
يجب أن تقرأ الأجيال القادمة عن مآثر جيل كان التمسك باسم فلسطين، مجرد اسمها يكلفه سنوات وسنوات في سجن صحراوي معزول عن البشر والحجر والحضارة.
كان العيش في ذلك السجن الصحراوي، والثبات على المبادئ والتمسك بهوية الوطن والدفاع عن حقوق فقراء الشعب، وعن حقوق الشعب بأسره وبكل أهدافه، وكامل حقوقه هو فعل بطولة نادرة، وطاقة كفاحية استثنائية بكل المقاييس.
كان الشيخ عنيداً بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم، وبقدر ما يتعلق الأمر بمسلّمات الشروط الإنسانية، وبحقائق الحق والعدل.
لكن داود عريقات كان متسامحاً ورقيقاً برقة نسمة، بسيطاً كالخبز وشفافاً كالزلال بقدر ما يتعلق الأمر بالناس، وببسطائهم تحديداً.
عندما تلتقي البطولة والصلابة مع الحنوّ والرقة وجمال الروح فإننا حتماً نكون أمام شخص فذ، وأمام قامة إنسانية عالية، وأمام طاقة لا تنضب، وقبل كل هذا وذاك أمام إنسان استحق أن يكتسب ويحقق إنسانيته، وأن يعيشها، وأن يظل وفيّاً لها في كل الظروف وفي كل مراحل حياته النضالية الزاخرة بالعطاء، وصنع الفرح ورسم الابتسامة على شفاه كل من عرفه، وكل من جالسه، وكل من تربّى في بيئته الثرية بالقيم والإحساس بالواجب.
الشيخ داود نموذج الشيوعي الوطني المجدد المتجدد، المثابر الملتصق بهموم شعبه ووطنه على مدار عقود طويلة من تحمل المسؤولية وحمل الراية.
كم هو مؤلم أن يرحل هذا النموذج المبدع، رائد الفرح ورسّام البهجة والابتسامة في زمن التراجع والهوان، وفي زمن الفقدان أيضاً.
وكم هو مؤلم أن يتحول كل هذا الجيل إلى مجرد ذكرى عابرة بدلاً من أن يكون النموذج والقدوة والمنارة لكل فلسطيني في طول البلاد وعرضها وفي كل بقاع الأرض.
وكم تبدو رواية الكفاح الوطني ناقصة ومنقوصة دون بطولاتهم، ودون سيرتهم، وما قدموه للجيل الحاضر وللأجيال القادمة.
الشيخ المبدع المبعد والعائد، الصلب والرقيق، الشيوعي والوطني، المرح القادر على تحويل أصعب اللحظات إلى وجهة للأمل، والقادر على اعتصار الهموم والآلام في نغم ولوحة مرسومة بالوتر له علينا جميعاً واجب العرفان، وأحقية الامتنان لما قدم لشعبه ووطنه، ولما زرع في نفوس الناس من بهاء الحياة وجمالها، ولما ربّى لديهم من قيم الإيمان بالوطن.
لم نعطِ بعد لهذا الجيل الشجاع، العنيد الصنديد ما يستحقه من التخليد ومن مشاعر الانتماء إليه، ومن سمو القيم التي أورثونا.
يرحل عنا داود عريقات في زمن صعب، زمن الشرذمة، وزمن الارتداد، وفي زمن الظلمة والظلم والظلامية.
يرحل الشيخ في زمن «الوعظ والإرشاد»، وزمن التنكّر لقيم تربّى عليها أجدادنا وآباؤنا عن لُحمة أبدية، وعن تلاحم لا ينفصم.
يرحل، كما رحل عظماء جيله المقدام في زمن «الإمارات» الطائفية والجيوب التي تستجدي التحول إلى دويلة على جثة شعب وتاريخ وطن.
يرحل الشيخ، ولكنه ما زال يفيض فرحاً وصلابة، ويوزع علينا ابتسامات الحب والأمل.
نقلا عن صحيفة الايام