هاني المصري - النجاح الإخباري - هل كان إعلان الاستقلال في مثل هذا اليوم من العام 1988 خطأ سابقًا لأوانه؟ أم أن السؤال الأصح والأسبق على السؤال الأول: هل طرح إقامة دولة فلسطينية بعد إنهاء الاحتلال وعلى حدود 1967 هو الخطيئة الأصلية، وهل هناك تعارض بين الاستقلال والتحرر؟
أرى أن الخطيئة لا تعود إلى طرح إعلان الاستقلال كهدف وأمل في ذروة الانتفاضة المجيدة، ولكن في عدم تنبي الإستراتيجية القادرة على تنفيذه، وليس الخطأ في برنامج مرحلي تفرضه أسس ومعطيات موضوعية وذاتية، وإنما في كونه جاء بدلًا من المشروع الوطني الذي كان ينص على العودة والتحرير، ومتضمنًا في الميثاق القومي عند تأسيس منظمة التحرير، وفي الميثاق الوطني بعد دخول فصائل الثورة إلى المنظمة، ثم تطور إلى برنامج إقامة الدولة الديمقراطية على كل فلسطين.
ومن المفترض أن يكون البرنامج المرحلي خطوة على طريق تحقيق المشروع الوطني، وليس سقفًا له، كما يتوقع معظم دعاته الواهمون بإمكانية تحقيقه عبر المفاوضات والتسوية السياسية، ومن خلال التنازلات عن الحقوق والأهداف الأخرى المرحلية والإستراتيجية.
ومن الأسباب التي تستدعي طرح هذا البرنامج المرحلي:
· الاختلال الفادح في ميزان القوى لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني وحلفائه، وأن التغيير المطلوب في ميزان القوى لتحرير فلسطين أكبر بكثير من التغيير المطلوب لإنهاء الاحتلال، وبحاجة إلى وقت أطول بكثير، لأن العالم كله سيكون ضد المطالبة بالتحرير الكامل، أو بالدولة الواحدة على أنقاض المشروع الاستعماري. وهذا حدث في التاريخ، ففيتنام الشمالية تحررت قبل الجنوبية، إضافة إلى قطاع غزة، إذ انسحبت القوات المحتلة من داخله، وتحاصره وتشن عليه العدوان من الخارج.
· ملايين الفلسطينيين متشبثين بوجودهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وما زالوا أغلبية، وعددهم في فلسطين التاريخية يقارب، بل وزاد قليلًا عن عدد اليهود، مع أن هناك عملية جارية لاستكمال استعمار الأرض واستيطانها وطرد سكانها، وصولًا إلى أغلبية كبيرة يهودية وأقلية صغيرة فلسطينية .
· أن القانون الدولي والشرعية الدولية ينصان على أنها أرض محتلة، بينما يعتبران إسرائيل "شرعية"، استنادًا إلى قرار التقسيم الذي نص على دولة عربية إلى جانب دولة يهودية، قامت الثانية ولم تقم الأولى، وهذا سلاح سياسي وقانوني مهم لا يحرر الأرض وحده، ولا يحقق الاستقلال للدولة، ولكنه يساعد على تحريرها واستقلالها.
· أن معظم العالم يؤيد هذا البرنامج، لدرجة اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة عضو مراقب، واعتراف 140 دولة بالدولة الفلسطينية.
· الأهم أن القيادة والشعب ومعظم الحركة السياسية الفلسطينية بمختلف ألوانها بغض النظر عن اختلافاتها توافق حتى الآن على هذا البرنامج، رغم تراجع نسبة هذا التأييد بعد انتهاء المسيرة التفاوضية إلى الكارثة التي نعيشها، وبعد التدهور العربي والتطبيع العربي مع إسرائيل.
· أن نسبة كبيرة لا بأس بها من الصهاينة تؤيد إقامة الدولة الفلسطينية، ليس وفق التصور الفلسطيني، بل خشية من القنبلة الديمغرافية والقضاء على إسرائيل كدولة يهودية، وهذا ساهم في تأجيل الضم القانوني المتضمن في رؤية ترامب نتنياهو.
· ترتب على العملية السياسية قيام سلطة نجم عنها بنية متكاملة ومراكز سياسية واجتماعية وقانونية، لا يمكن القفز عنها، كما لا يجب الخضوع لها، بل لا بد من السعي لتغييرها لتصب في خدمة إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال.
الخلاصة :
أولًا: لا يمكن إلغاء ما تحقق والواقع القائم بجرة قلم، فهو نتاج عشرات السنين من الكفاح الذي حمل من الخيبات أكثر بكثير من الانتصارات. فالموروث كبير ويتجلى بالواقع الذي نجم عنه، وهو صعب ومؤلم، ولا يمكن إلغاؤه بسرعة، ولكن لا مهرب منه، ومن التعامل معه من أجل تغييره، وليس الخضوع له باسم الواقعية وانتهاء الحلول ، ولا القفز عنه بمغامرة باسم الثورية.
ثانيًا: السياسة فن أفضل الممكنات، ويجب التعامل على أساس تحقيق أقصى وأفضل ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة من دون تغييب الهدف النهائي عن الأنظار ولا لحظة واحدة. فما يجب أن ينتهي ليس الوجود الوطني والانتماء الوطني والكيان الوطني والحقوق والأهداف الوطنية، وإنما الوهم بإمكانية تجسيد الدولة وتحقيق الاستقلال، من خلال تسوية تفاوضية في ظل موازين القوى القائمة، متجاهلين أن التسوية التفاوضية ماتت، واستخدمت أسوأ استخدام من قبل الجانب الفلسطيني، وأفضل استخدام من أعدائهم.
ثالثًا: إدراك أن الحركة الصهيونية من حيث طبيعتها العدوانية والاستعمارية والعنصرية وأهدافها الجذرية والدعم الخارجي الذي تحظى به؛ غير مستعدة لأي تسوية تحقق أي حد من الحقوق الفلسطينية، ما يعني أن تحقيقها يجب أن يفرض فرضًا عليها أساسًا من الخارج بالضغوط بكل أنواعها، ومن خلال المقاومة والمقاطعة المستندة إلى كيان وطني واحد وموحد (المنظمة) يضم مختلف ألوان الطيف السياسي، ويستند إلى رؤية شاملة تعتمد ميثاقًا وطنيًا يطابق بين القضية والأرض والشعب، وتنبثق عنها وعنه إستراتيجيات وبرامج عامة تجسد الحد الأدنى المشترك، إضافة إلى برامج خاصة بكل تجمع فلسطيني وفق ظروفه وأولوياته .
رابعًا: لا يمكن وضع تعارض لا حل له بين تجسيد الاستقلال المبني على تحرير جزء من الوطن الفلسطيني مع تحرير الوطن الفلسطيني كله، أو مع الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية التي تقام على أنقاض المشروع الصهيوني الاستعماري العنصري، بحجة أن تحرير الجزء مستحيل، فإذا كان كذلك فإن تحرير الكل من رابع المستحيلات، وكلمة مستحيل غير موجودة في قاموس الشعوب الحية والمصممة على التحرير والاستقلال، والتاريخ عبارة عن صناعة المستحيلات وتحقيقها.
أما من يدعون إلى "الصمود" و"انتهاء الحلول" و"الحقوق المتساوية"، ومن دون وضع أهداف مباشرة ومتوسطة وبعيدة، فهم يصبون الماء في طاحونة اليأس والاستسلام للواقع، من خلال التهرب من مواجهة المهمات الراهنة، بحجة الاستعداد للمستقبل الذي لن يكون زاهرًا من دون القيام بما يجب القيام به حاليًا، ويشقون الطريق - بقصد أو من دون قصد - أمام تعميق سيادة الدولة اليهودية الواحدة والقائمة حاليًا، التي تضم الأرض وتطرد السكان الأصليين، ومن تبقى منهم تبقيه في معازل مأهولة بالسكان وتحت السيطرة الكاملة الإسرائيلية، وضمن أنظمة تمييز وفصل عنصري مختلفة ومتنوعة ببن مواطن من الدرجة الثانية للحاصلين منهم على الجنسية الإسرائيلية، ومواطن مقيم بلا جنسية مثل أهل القدس، ومواطن تحت الاحتلال العسكري ضمن صيغة حكم ذاتي محدود .
خامسًا: لا يتحدد المشروع الوطني الفلسطيني برمته، ولا تتحدد الأهداف الوطنية، بناء على الحقائق القائمة الآن، وتلك الجاري خلقها بالقوة والعدوان، وإنما بناء على الحقوق الطبيعية والتاريخية القانونية والسياسية، واستنادًا إلى تمسك الشعب الفلسطيني بهذه الحقوق، واستعداده لمواصلة النضال لتحقيقها مهما طال الزمن وغلت التضحيات .
تأسيسًا على ما سبق، لا تحدد إسرائيل والولايات المتحدة والمطبعون العرب البرنامج الوطني الفلسطيني، وإنما الحركة الوطنية من خلال مؤسساتها الشرعية التي تعبر عن الشعب الفلسطيني بشكل حر، ومن خلال الديمقراطية التوافقية التي تناسب مرحلة التحرر الوطني التي يعيشها الشعب الفلسطيني. فلم يكن حل الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس ممكنًا فورًا في العام 1974، عند إقرار النقاط العشر، ولا عند إعلان الاستقلال في العام 1988، ولا بعد توقيع اتفاق أوسلو، الذي لا ينصّ أصلًا على الدولة، ولم يكن ممكنًا قبل تولي دونالد ترامب سدة الرئاسة الأميركية، ولم يصبح ممكنًا بعد فوز جو بايدن، بل هو ممكن التحقيق بالصمود والمقاومة والرؤية الشاملة والتغيير المتراكم، ومستحيل التحقق من خلال العودة إلى دوامة المفاوضات والتنازلات من دون مرجعية، وإلى ما يسمى التسوية التفاوضية التي قتلتها إسرائيل منذ فترة طويلة، وليس ممكنًا إحياء العظام وهي رميم حتى بعد تولي بايدن إدارة البيت الأبيض.
فهناك مياه كثيرة قد جرت وحقائق كثيرة قد وجدت، وستفرض نفسها على أي مسيرة سياسية جديدة بمسميات جديدة، لا سيما في ظل طرح رؤية ترامب التي هي أساسًا رؤية نتنياهو واليمين الإسرائيلي، ووجود أكثر من 850 ألف مستعمر استيطاني، وحكومة متطرفة في إسرائيل، وأي حكومة قادمة ستكون أسوأ منها، إضافة إلى التردي العربي غير المسبوق، والضعف والانقسام والتوهان الفلسطيني، والرهان على العوامل والمحاور الخارجية وليس على الذات، وما لم يتم تدارك الأمر ستكون أي تسوية إن وجدت طريقها إلى الحياة أسوأ من أوسلو.
ما سبق يقتضي التخلي عن التعلق بأذيال التسوية الميتة، كما ظهر في تصريح الناطق باسم الرئاسة بالاستعداد لاستئناف المفاوضات على أساس الشرعية الدولية، أو من النقطة التي انتهت إليها المفاوضات السابقة، أو من الاتفاقات السابقة، التي أكل عليها الدهر وشرب.
ويمثل مثل هذا الموقف إعادة إنتاج الأوهام والحسابات السابقة، والتخلي حتى عن مبادرة الرئيس بالدعوة إلى مؤتمر دولي على أساس الشرعية الدولية، قبل أن يتولى بايدن الحكم، فكيف عندما يُنصّب رئيسًا.
ويقتضي أيضًا التخلي عن الرهان على تدمير إسرائيل وزوالها في العام 2022، وعلى مشاريع عالمية، وعلى المحاور الإقليمية والتغيير القادم من دون المساهمة في إحداث انطلاقه من الشروط الراهنة.
أقصى ما يمكن أن يريده بايدن العودة إلى إدارة الصراع وليس حله، وهذا يصب كليًا في صالح إسرائيل، ويغطي على الضم الزاحف، ويريد أن يعيد العلاقات مع القيادة الفلسطينية واستئناف المساعدات مقابل التزامات فلسطينية من السهل توقعها، وهي لا تقل عن العودة لتطبيق ووقف تعليق الالتزامات الفلسطينية في أوسلو من دون التزام إسرائيلي مقابل، ما يفتح الطريق إلى مزيد من التنازلات الفلسطينية، ويقطع الطريق على المصالحة إلا إذا جاءت في سياق ترويض حركة حماس وسيرها تحت مظلة السلطة والتسوية الموهومة.