نبيل السهلي - النجاح الإخباري - في الذكرى الثالثة بعد المائة لإصدار وعد بلفور (1917-2020) ثمة ضرورة ملحة لتسليط الضوء على الدور البريطاني في إنشاء إسرائيل واستمرار مأساة الشعب الفلسطيني، حيث أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري في المجلد السادس من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي ألفها قبل رحيله بسنوات عدة، إلى أن صهاينة بريطانيا نجحوا في إصدار تصريح بلفور قي 2-11-1917، ولم يكن مرد ذلك ثراء يهود بريطانيا آنذاك أو وجود لوبي يهودي ضاغط، فالضغط اليهودي كان عنصراً ثانوياً في إصدار الوعد المشؤوم.
المصالح الإستراتيجية الغربية
إنّ تفسير النجاح اليهودي في بريطانيا وفشله في ألمانيا لا يتم بنقاش القوة والضعف الذاتيين الصهيونيين، ولكن بالعودة إلى المصالح الإستراتيجية الغربية في زرع دولة استيطانية وسط العالم العربية.
يجمع المتابعون لاتجاهات تطور القضية الفلسطينية على أن إصدار وعد بلفور قبل مائة وثلاثة أعوام، قد أسس لإنشاء إسرائيل على 78 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية وبروز مأساة الشعب الفلسطيني المستمرة بفصولها المختلفة، حيث تمّ طرد غالبيته من أرضه. ووعد بلفور هو التصريح البريطاني الرسمي الصادر في الثاني من شهر تشرين الثاني / نوفمبر عام 1917 وأعلنت فيه بريطانيا تعاطفها مع رؤية الحركة الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، على شكل رسالة بعث بها وزير الخارجية البريطاني آنذاك، اللورد بلفور، إلى المليونير اليهودي، اللورد روتشيلد.
الثابت والأكيد أن السبب الرئيسي لإصدار الوعد المشؤوم تحقيق هدف غربي، بدأ بسياسة رئيس وزراء بريطانيا، بالمرستون، الذي دعا عام 1839 إلى زرع كيان صهيوني استيطاني إحلالي في فلسطين، ليكون حاجزًا بين مصر والمشرق العربي، على اعتبار أن ذلك يشكل، بحد ذاته، قلعة أمامية ضد التحرر والتطور في المنطقة العربية، تلك السياسة التي تبناها جميع قادة الإمبراطورية البريطانية منذ بالمرستون، حيث نجم عنها، في نهاية المطاف، إصدار وعد بلفور المشؤوم، وعندما صدر في أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت القوات البريطانية تحارب للاستيلاء على فلسطين من الدولة العثمانية. أرادت بريطانيا أن تحكم فلسطين لموقعها قرب قناة السويس التي تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر.
واعتقد البريطانيون أن وعد بلفور سيساعد على كسب التأييد لهذا الهدف من زعماء اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة وفي دول أخرى، وفي عام 1922 صادقت عصبة الأمم على وعد بلفور، وأعطت بريطانيا حق الانتداب على فلسطين.
تشجيع الهجرة اليهودية
احتلت بريطانيا بعد شهر من إصدار الوعد المشؤوم فلسطين، وبدأت مباشرة بتحويله إلى واقع ملموس على الأرض، بتشجيع الهجرة اليهودية، وسن تشريعات تمكّن اليهود من السيطرة على الأرض الفلسطينية.
وقد مهدت بريطانيا لهذا الاحتلال باتفاقية سريّة أبرمتها مع فرنسا عام 1916 لتقسيم الأراضي العربية بينهما، خلافا لعهود قطعتها للشريف حسين بمنح العرب الاستقلال في دولةٍ، تمتد من تركيا وحتى بحر العرب، وتشمل بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية، باستثناء جنوب اليمن، إذا ثار العرب على الدولة العثمانية. وبالفعل، أعلن الشريف حسين الثورة على تركيا، تنفيذاً لما اتفق عليه مع بريطانيا، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا وفرنسا تتباحثان على تقسيم المنطقة، وهي مباحثات أسفرت عن إبرام اتفاقية «سايكس – بيكو» التي صنفت فلسطين منطقة دولية، قبلت فرنسا فيما بعد بوضعها تحت النفوذ البريطاني.
هذا التاريخ سبقته جهود كبيرة بذلتها الحركة الصهيونية، بقيادة تيودور هرتزل، الذي يعتبر الأب المؤسس لدولة إسرائيل.
ونجحت هذه الجهود في دفع الحكومة البريطانية إلى تبني المطالب الصهيونية بإنشاء دولة صهيونية في فلسطين.
وقد اتخذت الخطوات البريطانية لتأسيس الدولة الصهيونية أبعاداً عملية بإنشاء الفيلق اليهودي، وتزويده بالأسلحة والمعدات وتدريب عناصره على القتال، وشرعت بمصادرة الأرض وتشريع القوانين وبناء المؤسسات الصهيونية، واعتقال الفلسطينيين المعارضين.
وشهدت فلسطين عمليات مسلحة وانتفاضات وثورات ضد الاحتلال البريطاني واليهود، وكانت انطلاقة العمل المسلح المنظم عام 1919 عبر جمعية «الفدائية» إلا أن بريطانيا تصدت لهذه الجمعية، وأجهضتها.
دور الحاج أمين الحسيني
وفي عام 1920 اندلعت انتفاضة في القدس، يمكن اعتبارها أول انتفاضة شعبية في تاريخ فلسطين الحديث، حيث لعب الحاج أمين الحسيني دوراً مهماً في إشعالها، ففرضت السلطات البريطانية الأحكام العرفية، وحكمت بالسجن 10 سنوات غيابياً على الحاج أمين الحسيني، إلا أنه لم يسجن. ثم توالت الانتفاضات الفلسطينية بعد ذلك، مثل انتفاضة يافا عام 1921 ضد الهجرة اليهودية، ثورة البراق عام 1928 التي اندلعت عندما حاول اليهود تحويل حائط البراق إلى كنيس يهودي، وفي العام التالي، تصدى الفلسطينيون لليهود الذين نظموا مظاهرات في القدس، اتجهت إلى حائط البراق ورفعوا العلم الصهيوني، ووقعت صدامات عنيفة في فلسطين، أسفرت عن سقوط 116 شهيداً فلسطينياً، معظمهم قتلوا برصاص القوات البريطانية، وانطلقت ثورات متتالية وصولاً لإضراب عام 1936 في محاولةٍ لإحباط إنشاء دولة صهيونية في فلسطين.
ووصلت الثورات الفلسطينية ذروتها عام 1938 فسارعت بريطانيا إلى إرسال قوات ضخمة إلى فلسطين، وإعادة احتلال المناطق التي حررها الفلسطينيون، باستخدام كل ترسانتها العسكرية، من طائرات ودبابات ومدفعية، وقتلت كثيرين من قادة الثورة، ما أفقدها زخمها عام 1939 بعد ثلاث سنوات من المقاومة الفلسطينية، ضد أكبر إمبراطورية في ذلك الحين. في هذا الوقت، كانت الأموال الأمريكية والبريطانية والغربية تتدفق إلى فلسطين، لتمويل بناء «الوطن القومي اليهودي» بل إن آرثر بلفور صاحب الوعد بإقامة دولة للصهاينة في فلسطين، افتتح بنفسه الجامعة العبرية في القدس عام 1925.
قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة
استمرت بريطانيا في العمل على توفير كل ما من شأنه تحويل وعد بلفور إلى دولة حقيقية لليهود على الأرض، وتوّج الأمر بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 29-11-1947 يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة لليهود وأخرى للفلسطينيين.
في الخامس عشر من أيار/مايو 1948 انسحب الجيش البريطاني من فلسطين، ليسلم أراضيها إلى العصابات الصهيونية، شتيرن وهاغانا وأرغون، ولتبدأ فصول المأساة الفلسطينية، حيث ارتكبت تلك العصابات عشرات المجازر ضد الفلسطينيين، ما دفع 61 في المئة من الشعب الفلسطيني للهرب إلى خارج فلسطين، ومع استمرار إسرائيل في سياساتها، تكرر مشهد الطرد في 1967 إبان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث طرد الجيش الإسرائيلي 460 ألف فلسطيني، ليطلق عليهم لقب نازح، وليصبح (70) في المائة من إجمالي الشعب الفلسطيني خلال العام الحالي عام 2020 ضحايا الترانسفير الصهيوني المبرمج، والذي كان من النتائج الكارثية لوعد بلفور.
كاتب فلسطيني مقيم في هولندا