نابلس - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في جلسة حوارية مع بعض الأصدقاء، زعم أحدهم أن هتلر أراد افتتاحية عظيمة وصادمة لأحد خطاباته، فاختار بناء على توصية أحد مستشاريه الآية الكريمة «اقتربت الساعة وانشق القمر».. فقلتُ إن هذه الواقعة غير صحيحة، ولم تحدث أبدا، وإذا حدثت يجب أن نخجل من ذكرها.. ثم قادنا الحديث إلى تفسير آية انشقاق القمر، فزعم آخر أن القمر في عهد النبي انشق إلى نصفين استقرا على جبلي أبي قبيس وقيقعان في مكة، وأنّ هذه الواقعة إحدى معجزات النبي، وأنَّ وكالة «ناسا» نشرت على موقعها ما يؤكد حدوث الانشقاق.. فقلتُ: بإمكان أي هاوٍ كتابة منشور وإضافة أي «لوغو» عليه، وطرح ما تجود عليه قريحته. ولكن هذا لا يجعله حقيقة.
القمر مساحته ربع مساحة الأرض تقريبا، وكتلته 1/80 من كتلتها، وبالتالي إذا هبط القمر على الأرض سيغطي عموم اليابسة.. ولو اقترب القمر من الأرض تنتهي الحياة عليها مباشرة، ثم إن حدثاً بهذه الضخامة لم يرد لا في قصيدة ولا في مخطوطة ولا في خبر أمر مستحيل.
وفي مثال آخر، قصة في التراث الشعبي، يريد البعض جعلها حقيقة، رغم سذاجتها، مفادها أن حمارا يدعى يعفور (أو عفير) غنمه المسلمون في «خيبر»، وعندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له، «..إن أبي حدثني، عن أبيه، عن جده، عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله وقال، يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار».
وقصة الحمار يعفور أوردها ابن كثير في «البداية والنهاية» 6/158، وابن الأثير في «أسد الغابة»، والذهبي في «ميزان الاعتدال» 4/34، والحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» 5/426، كما أوردها «الكافي» الشيعي 1/184، ورويت بأكثر من سند.
لست متأكدا إذا كانت هذه القصة قد وردت فعلا في كل هذه المصادر، مع أن الباحث يذكر موقعها بالضبط، ولست هنا بصدد الدعوة لتنقيح كتب التراث وتخليصها من الشوائب والخرافات (على أهمية ذلك)، المهم أن القصة يصدقها البعض، وهناك قصص أشد غرابة ومنافية تماما للعقل والمنطق يتم تداولها من البعض.
لماذا حدث هذا؟ وكيف صارت العقلية العربية محشوة بالخرافات؟
ما يحدث عمليا هو أن الإنسان إذا أحـسَّ بالتيه والضياع يلجأ للدين لأنه يمنحه الطمأنينة والسكون، وفي فترات الضعف والهوان والهزائم يحتاج إلى ما يعوضه عنها، وما يمنحه بعض التوازن (حتى لو كان وهما) فيرغب بالعيش في الماضي وتذكر بطولات الأولين وأمجادهم، وعندما يعجز عقله (وكذلك العقل الجمعي) عن إدراك وفهم ما يجري من حوله، واستيعاب مدى تراجعه وتخلفه، فإنه ينحّي عقله جانبا، خاصة أنه عجز عن تقديم أي حل حقيقي، ويتكئ بدلا منه على الخرافات والأوهام والغيبيات، لأنها الأقرب إلى غريزته البدائية، ولأنها البديل الأسهل.
حدث هذا منذ أزيد من ألف عام، في فترات نكوص وتراجع الأمة، ويبدو أن تلك العقلية تكرست واستوطنت وما زالت مسيطرة على العقل العربي حتى في عصر العلم والتكنولوجيا.
مع بدء مسيرة التراجع والسقوط تعززت مدرسة النقل، التي تؤمن بقداسة النص وتلتزم بحرفيته، وتضيّق المجال إلى أبعد حد على العقل الحر ليفكر ويحلّق ويخرج عن المألوف، بل إنها ترى العقل ناقصا وعاجزا، وما على الفرد إلا التسليم بما جاء في النصوص.. بذلك اختفت العقلية النقدية والإبداعية، وحلت مكانها عقلية نصوصية جامدة مقيدة تابعة وغير حرة.
العقلية النقلية تجعل التفكير محصوراً في حدود النص، ولا تسمح بالخروج من فضائه، يهمها فقط صحة السند، وان الحديث النبوي، أو الواقعة، أو القصة، أو الفتوى وردت في أحد الكتب المعتمدة، وبالتالي يجب التسليم بها، وتصديقها، دون أي محاولة لنقد المضمون، وتمحيص المحتوى، ومقاربة ذلك بالمنطق والعلم.. أو إخضاعها لمعايير الإنسانية، أو التعامل مع النص في إطاره التاريخي المادي، وإسقاطه على الواقع الجديد والمختلف، لمعرفة مدى صلاحيته وملاءمته.
عندما تصدق قصة الحمار يعفور، لمجرد أنها وردت في أحد المصادر، أو لأنّ شيخا ما سردها، ستصدق بالتالي أي قصة أخرى مهما كانت غريبة وخيالية ولا يقرها منطق ولا يقبل بها عقل، وطالما أن الراوي أو الشيخ يتمتع بالقداسة الدينية، وأنك سلمت له عقلك ليملأه بما يشاء، من البديهي أن هذا الشيخ سيتحكم بك، بعقلك، بتصرفاتك، بتوجهاتك.. وستصبح ضمن المجموعة الأكبر التي تتبع هذا الشيخ (وهذه تدعى ثقافة القطيع).
يتبقى الجزء الأخير والأهم من هذه السلسلة، والتي تكتمل عندما يضع الشيخ مقدراته وموارده البشرية وفتاويه وقصصه في خدمة السلطة الحاكمة، أو تتمكن السلطة من إخضاع الشيخ لها، في النهاية سيكون الكل (المؤسسة الدينية والشعب) في يد السلطة، تحكمهم وتتحكم بهم بكل أريحية، ومن الطبيعي أن ترفض السلطة والمؤسسة الدينية أي نقد، بل ستحاربه بكل قوة، والمساحة الوحيدة المتاحة للمعارضة والنقد تكمن في الانشغال بالقضايا الثانوية والهامشية والشكلية، وأبرزها طبعا كل ما يتصل بالمرأة (زيها، حركتها، زينتها، عطرها..) أما قضايا الوطن والسياسة والشأن العام والحقوق المدنية والدستور والانتخابات والفساد والأزمات والهزائم والتخلف والجرائم.. فهذه جميعها مختزلة في تبرج النساء.
التسليم بالخرافات ليس فقط في المجال الديني؛ بل يشمل ذهنية المؤامرة، والإيمان بالسحر والخزعبلات والحُجُب والأبراج والتنبؤات، ومن ثم تصديق الخطاب الشعبوي، والتفكير بعقلية سطحية.. بعبارة أخرى: التخلي عن لغة العقل والمنطق ومنهج النقد والبحث العلمي.. وتسليم عقولنا لأناس عاشوا قبل مئات السنين.. قد يكون هؤلاء عباقرة وعظماء، لكن زمانهم غير زماننا.. هم لهم عقول، ونحن كذلك.. والقرآن حثنا في عشرات الآيات الكريمة على التفكير والتبصر.
نقلاً عن :جريدة الأيام