عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - أكثر ملامح الدولة العربية هو عدم تعبيرها الحقيقي عن شعبها، وربما باستثناء حالات قليلة فإن أهم ملمح للدولة القطرية العربية في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار أو تفككه هو افتقارها إلى الشرعية الديمقراطية التي هي أساس الحكم الحديث.
وفي موجة التطبيع التي يلهث خلف سرابه بعض الدول العربية في افتراق صارخ عن مواقف شعوبها فإن السؤال عن الشرعية يعود مرة أخرى ليشير إلى النقص الأهم في حالة النظم السياسية العربية.
ولما ليس من المنطقي أن يكون كل المواطنين على رأي واحد لأن هذا يخالف مبدأ الاختلاف والتعددية فإن الحالة العامة والمزاج السائد في الدول العربية وفق كل المعطيات يرفضان تطبيع العلاقة مع القاتل السارق، من منطلق قناعات.
صحيح أنه قد يصار إلى محاولة تدجين المواطنين من خلال حملات تشويه الحقائق مثلما يجري الآن في تلك الدول وتقديم القاتل بوصفه صديقاً مقرباً، وصحيح أنه قد يصار إلى محاولة تغيير مجريات التاريخ وربما يذهب البعض، وهذا ليس مستبعداً، للتلاعب بسيرة ابن هشام حتى لا نغضب مشاعر أصدقائنا الجدد، ولكنْ صحيح أيضاً أن ثمة موقفا عاما وحكمة سائدة لا يمكن لها أن تقبل الرواية المضادة التي يحاول البعض التصالح معها بوصفها المسار الحقيقي للتاريخ كما كان فعلاً.
وبقدر ما في هذا انسلاخ عن الحالة العربية وعن فكرة أن تكون عربياً بقدر ما فيه تعبير عن العجز الأهم الذي تعاني منه دولة الاحتلال وذلك الذي يعاني منه المطبعون.
فدولة الاحتلال تدرك أنها قد تصبح القوة الأولى في العالم وقد تمتلك قوة تستطيع فيها أن تمحو نصف الكرة الأرضية عن الوجود، وقد تلبس ثوب الواعظين مثل الثعلب في قصيدة أحمد شوقي الشهيرة وتوزع المواعظ والصدقات والمال، لكن هذا لا يغير من قناعات طفل فلسطيني بأن البلاد له وإن كان يعيش في مخيم للاجئين يبعد عن قريته جنوب يافا مئات الكيلومترات في بلاد أخرى.
والأمر ذاته ينسحب على قناعات المواطنين العرب في البلدان العربية.
ثمة ضعفاء وثمة بعض المرتزقة وبعض الباحثين عن الشهرة هنا وهناك لكن ثمة حقيقة مطلقة بأن العرب يقفون بالضد.
وبالتأكيد أن يخرج صوت نشاز لا علاقة له بالطرب والغناء وينوح طالباً أن يذهب لتل أبيب في المقطع الصوتي الذي ظهر لا يمكن أن يجعل من تل أبيب أكثر من مستوطنة شمال يافا كما كانت تراها جدتي عيشة في صباها في البلاد الجميلة.
لا شيء يمكن أن يغير من هذه الحقائق، كما أن هذا لن يجعل من تلك العلاقة غير الشرعية بين بعض العواصم حديثة العهد بالوجود وبالسياسة وبين تل أبيب شيئاً طبيعياً في المنطقة.
هذا أمر يكاد يكون ثابتاً في الوعي كما في الفهم والحس العربي العامين.
أما الدولة العربية فهي بعمومها تعاني من نقص الشرعية. صحيح أن بعض النظم السياسية الحاكمة في الحالة العربية اكتسبت شرعية ثورية ارتبطت بقيادة أحزابها الحاكمة لعملية النضال الوطني ضد الاحتلال مثلما هي الحال في الجزائر أو أن بعض النظم العربية اكتسبت شرعية جماهيرية نتجت عن تعلق جماهيرها خلال حقب تاريخية محددة ببعض زعاماتها الكبيرة مثلما هي الحال في مصر الناصرية، بيد أن مثل تلك الشرعيات تراوحت وتذبذبت.
ماكس فيبر يؤطر الشرعية في ثلاثة منابع، من المؤكد أن الحالة العربية تعرفها كلها إلا الشرعية الديمقراطية باستثناء بعض الحالات، والشرعية الكاريزمية ترتبط بشخص الزعيم الذي تلتف حوله الجماهير وتزول برحيله.
أما الكثير من الأنظمة في الحالة العربية فكثيرها يفتقر إلى أي نوع من الشرعية، بل إن نظام الحكم فيها قائم على قمع إرادة المواطنين.
وربما يبدو من خلف شاشات التلفاز المواطنون سعداء وقانعين وراضين ولكن الحقيقة غير ذلك لأنهم لن يتاح لهم أن يعبروا بأي شكل عن أي رأي آخر.
بطريقة أخرى فإن آلة القمع لا تنتج الفرد المطيع فقط بل تخلق آليات تعبيره الحر (في تناقض منهجي وأخلاقي) عن رضوخه ورضاه.
عموماً فإن تلك الأنظمة لا يمكن لها أن تعبر عن رغبات مواطنيها.
هذا النقص في الشرعية يتم التعويض عنه بالبذخ الزائد، حتى أن تلك الدول لا تهتم بطبيعتها برأي المواطنين ويؤخذ رأي الحاكم على أنه رأي الجميع.
انتهاكات حقوق الإنسان، التعذيب، القمع، التضييق على الأفراد، غياب المجتمع المدني الحقيقي بوصفه المساحة بين الفرد والدولة، وكل أشكال المحو والتضليل، كل ذلك من أجل أن يظل الحاكم قادراً على زعم امتلاك الحقيقة التي لا يملكها.
وفيما يمكن أن يحدث كل ذلك فإن حكمة التاريخ تقول إن استمرار مثل هذا الوضع غير ممكن إذ إن المواطن لابد أن ينتصر لمواطنته ويبحث عن حقوقه.
ولكن بشكل عام فإن هؤلاء المطبعين لا يمثلون شعوبهم بأي حال.
نقلاً عن الأيام الفلسطينية