نابلس - النجاح الإخباري - في البحث عن الحرية، استخدم الأسرى الفلسطينيون أمعاءهم رأس حربة الدفاع عن حقهم بالحرية. منح الأسرى أمعاءهم وظيفة مخالفة لطبيعتها ودورها، أعطوها مهمة الحنجرة لرفع صوتهم في سبيل فضح جرائم الاحتلال وبطشه، وأحد مهامها رفض سياسة الاعتقال الإداري، ليصبح الاضراب عن الطعام أحد أهم نماذج المقاومة الفلسطينية المتاحة في تحقيق الانتصار على السجن والسجان.
لم يَطُل بحث «ماهر» عن كسر قرار مصلحة السجون في تمديد الحكم الاداري الصادر بحقه، رافضاً جميع العروض المقترحة لكسر إضرابه وآخرها رفضه، في اليوم التاسع والسبعين منذ إعلانه الإضراب حتى الحرية، توصية المحكمة العليا بإطلاق سراحه في نهاية شهر تشرين الثاني القادم، مقابل فكه الإضراب. الرفض جاء لتفويت الفرصة عَلى إدارة السجن والمحكمة العليا وتسجيلهم النقاط على جبهة سياسة كيّ الوعي الفلسطيني الجمعي ومعها أساليب الاحتيال الممارسة من أجل فكّ الاضراب، فالتاريخ يسجل نكثهم بالعهود والمواثيق.
«الأخرس» يتكلم ويفاوض بمهارة. فالتجربة ماثلة أمامه كعملاق، جربها «القيق والعيساوي وخضر» وغيرهم، والإرادة السماوية التي امتلكوها يقبض على ناصيتها «الأخرس» باقتدار. الأمعاء تعطيه القوة غير متعجلة الانتهاء وقد تحرر عقله وروحه من السجن قبل جسده، فعَقَل وتوكَّل وجلس خلف خواء أمعائه واثقاً بإرادتها على الصمود..
«ماهر الأخرس» ماهرٌ في ترتيب حساباته، انطلق من حساب الوقت الميت في الحياة ليصل إلى مغامرة رفض الاستسلام للبطش واختلال المعادلات. رفض «الأخرس» مقولة أن مصير العين أن ترى المكتوب على جبينها، فلا يخلو أمر الكفاح من كتابة المصير بالتصميم والعزيمة، وأن تناطح الكفّ المخرز.
قرار «الأخرس» انطلق من استكمال نصيبه في نشر رواية الأسرى، وجد أن ثمة دروساً ينبغي الكشف عنها، بأن يُعلن أن ثمة أسيراً إدارياً جديداً يحرر نفسه بأمعائه، وأن الضعف قد يكون من شأنه كسر القوة.. يريد أن يعمم أن ثمة خيالاً حرّاً يتجول في فضاء احتلال فقير الاحلام. ثمة بطل يقفز من الرواية ليقول: الجوع ليس بكافر على الاطلاق.
ثمة كلام لم يُقَل بعد عليه تسجيله، سيسجل أن الإرادة الفردية التي تختبر المعاناة وتصبر لها نهاية، وأن النهاية سيصلها الجميع تباعاً، كل سيقتحم بأمعائه المواجهة في محطة ما، وأن كلام الأمعاء الخاوية سيكون مجلجلاً، وأن قصص السجون الاسرائيلية لا ينبغي السماح لها الموت بصمت حتى لو كان الثمن خروج الروح من جسدها. سيقول «ماهر» في تتمة القصة، أن لديه مسماراً جديداً يتوجب عليه تثبيته على نعش الاعتقال الإداري، ولا زال ثمة مسامير تنتظر شاكوشاً جديداً تحمله أمعاء خاوية.
في السجون، ثمة تطبيق عملي لنظريات فاحشة الثمن، النصر صبر ساعة، تتجسد على يد رجال بلا أوسمة على الأكتاف، لا يسبق أسماءهم أي لقب كبير، كل ما لديهم سيرة ناصعة ومسيرة نضال طويل الأمد بسبب عار العالم، ستقول السيرة أن ثمة علامات فارقة يمتلكها من يواجه لوائح الاتهام السرية في حب الوطن، ستتحدث عن فنون التفاوض ومعايير حسن الأداء وبراءة اختراع من إنتاج الأسرى الفلسطينيين.
ثمة كلام علينا الاعتراف به، الدروس التي علَّمنا اياها «الأخرس» ذو الصوت الجهوري، من مبتدأ الخبرة في قلب الأمور رأساً على عقب، والقبض على ناصية التفاصيل والشوارد وتوظيفها لنا وليس علينا، وتغيير حركة الباب الدوّار، إلى خبر صياغة هياكل الخطاب بالبصمة الفلسطينية الحرة.