مصطفى البرغوثي - النجاح الإخباري - لا يختلف اثنان على أن الحركة الصهيونية قامت بعملية مركبة ضد الشعب الفلسطيني شملت الاستعمار الاستيطاني، وإستخدام العنف المسلح، بما في ذلك المجازر، وصولاً إلى واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في عصرنا والتي نفذتها في عام 1948، مروراً بنظام الاحتلال العسكري الأطول في التاريخ الحديث.
عقيدة الحركة الصهيونية بنيت على أساس تحقيق هدفين : الإستيلاء على الأرض بالقوة المسلحة وبالمصادرة والاحتيال، وتهجير الفلسطينيين من هذه الأرض.
وإذا كان هدف احتلال كل أرض فلسطين تحقق بالقوة العسكرية، فإن الهدف الثاني تعثر، ثم فشل، بسبب صمود جزء باسل من الشعب الفلسطيني الذي أصر على البقاء في وطنه بعد نكبة عام 1948، وتحمل آلام ومآسي الحكم العسكري – المخابراتي الإسرائيلي حتى عام 1966، وبسبب بسالة جزء آخر، تعلم من تجربة عام 1948، وفضل مواجهة خطر الموت على الرحيل وصمد في القدس وباقي الضفة الغربية وقطاع غزة، وجزء هام منه كان من اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا عام 1948.
هذا الصمود لم يحدث صدفة، ولم يتم ببساطة، بل كان حصيلة جهد لا يقدر بثمن من العمل الوطني والتوعية، والصمود الاقتصادي والمجتمعي، والنضال الشعبي الذي كانت الإنتفاضة الشعبية الأولى من أنقى تجلياته.
والنتيجة الطبيعية لكل ذلك، أن عدد الفلسطينيين اليوم على أرض فلسطين التاريخية يعادل، إن لم يفق بقليل ، عدد اليهود الإسرائيليين.
هذا ما لم تحسب الحركة الصهيونية حسابه، ولم تجد سوى تبني منظومة "الابرتهايد" والتمييز العنصري علاجاً له، وبفعلها، أعادت موضوعياً توحيد مكونات الشعب الفلسطيني التي انقسمت بعد إتفاق أوسلو .
نظام "الأبرتهايد"، كما أوضح بدقة علمية مميزة تقرير فريق "الاسكوا"، يشمل الفلسطينيين في أراضي 1948، وفلسطينيي الضفة والقطاع بما في ذلك القدس، واللاجئين الفلسطينيين المحرومين من حق العودة أو التواجد في وطنهم.
أما منظومة "الأبرتهايد" العنصرية، التي فاقت في ظلمها وبشاعتها نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا، فقد تعززت بقانون القومية الإسرائيلي، الذي يعطي حق تقرير المصير في كل فلسطين التاريخية لليهود فقط.
كل مناحي عيش الفلسطينيين اليوم تعاني من عنصرية فظة، فهم محرومون من أرضهم، وممنوعون من البناء في معظمها، ومحرومون من مياههم التي تصادر إسرائيل معظمها، وفي حين تعطي السلطات الإسرائيلية حق إستعمال 2400 متر مكعب سنويا منها لليهودي المستوطن، فإنها تحدد ما لا يزيد على 50 متراً للفلسطيني. أي أن للمستوطن اليهودي حق استعمال المياه بكمية تزيد 48 مرة عن الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
ومعظم الفلسطينيين محرومون من التنقل وحرية الحركة، ويعيش " ٢" مليون منهم في سجن معزول ومغلق أشبه بمعسكر إعتقال، اسمه قطاع غزة، ومعظم أهل الضفة عليهم التنقل عبر 650 حاجزا عسكريا، ولا يسمح لهم بالوصول إلى القدس.
وفي حين يعطي نظام "الأبرتهايد" الإسرائيلي الحق لأي يهودي في العالم سواء كان يعيش في نيويورك أو سيبيريا أو أي مكان آخر ، أن يحصل على المواطنة فور هبوطه في أي مطار إسرائيلي، ويعطيه حق الإقامة أينما شاء في كل أرض فلسطين بما في ذلك في الضفة الغربية والقدس المحتلة، فإنه يحرم أكثر من ستة ملايين لاجئ من الفلسطينيين المهجرين بالقوة من حق العودة إلى الأرض التي عاشت فيها عائلاتهم منذ مئات وآلاف السنين.
الدخل القومي للفرد في إسرائيل يصل إلى 42 ألف دولار ، ولا يتجاوز ألفي دولار للفرد في الضفة والقطاع. ولكن الفلسطينيين أينما كانوا يدفعون نفس ما يدفعه الإسرائيليون ثمناً للمنتجات والبضائع بسبب إلحاق السوق الفلسطيني بالإسرائيلي.
أكثر من مليون عملية اعتقال وأسر تمت ضد الفلسطينيين منذ عام 1967، وعشرات الآلاف قضوا شهداء أو أصيبوا بجراح.
لكن الجانب الأهم أن هناك نظاما قانونيا خاصا باليهود وأنظمة قانونية أخرى للفلسطينيين حسب مكان معيشتهم. ويستعمل الإسرائيليون ضد الفلسطينيين مزيجاً من القوانين العسكرية الإسرائيلية، والقوانين العثمانية، والانتدابية البريطانية، بما فيها قانون الطوارئ الذي ألغته بريطانيا، وما يعجبهم من القانون الأردني، بالإضافة إلى حوالي ألفين من القوانين العسكرية، وإذا كان ذلك كله لا يكفي فإن بمقدور حكام إسرائيل إصدار مزيد من القوانين العسكرية.
خطة ترامب، أو "صفقة القرن" كما يسمونها، لن تنشئ دولة فلسطينية، ولن تنهي الاستيطان الاستعماري ، ولن تحقق الحرية للفلسطينيين. وهي تعبر عن قرار الحركة الصهيونية، بعد أن تلاعبت لعقود بما سمي "عملية السلام"، إلغاء فكرة الحل الوسط مع الفلسطينيين، وتكريس الضم والتهويد لكل فلسطين.
كما ان خطة ترامب تشرعن تجزئة الضفة الغربية إلى 224 "جيتو"، أو "معزل"، أو "بانتوستان" إن شئتم، مع "جيتو" كبير في غزة، محاصرة جميعها بالجيش الإسرائيلي، وجدار الفصل العنصري، والحواجز العسكرية ، والمستعمرات.
وخطة ترامب تؤكد بقاء السيطرة الإسرائيلية على أرض ومياه وأجواء فلسطين بكاملها، بالاضافة الى المجال الكهرومغناطيسي، بما في ذلك البقع التي ستسمى "دولة فلسطين"، في الضفة والقطاع.
خطة ترامب التي كُتبت بقلم نتنياهو، تكرس نظام "الابرتهايد" العنصري ضد الفلسطينيين، وقبولها أو التعامل معها سيعني مشاركة إسرائيل في خرق القانون الدولي، وقيم الإنسانية والعدالة، وتصفية حقوق الشعب الفلسطيني .
نظام "الأبرتهايد" ليس سلاماً، ولن يجلبه ، والجيتوات والمعازل ليست، ولا يمكن أن تكون دولة، والفلسطينيون لن يوقفوا كفاحهم ومقاومتهم لأنهم يعرفون جيداً، الفرق الشاسع بين السلام والاستسلام.