عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - كما نعرف جميعاً فإن وصول العمادي إلى قطاع غزة معناه أن الأمور تسير وفق ما هو مرسوم ومتوقّع.
تصعيد من هنا وتصعيد من هناك، صاروخ لا يصيب أحداً من هناك، وقصف لا يصيب أحداً هنا.
بالونات تُشعل الكثير من الحرائق هناك، وطائرات تُغير على مواقع فارغة وأرض فارغة، والوسطاء منهمكون في جولات هنا وهناك دون نتيجة.
لماذا؟ لأن العمادي لم يصل بعد!
أما وقد وصل، فالأمور اختلفت، والنتائج سريعة، والأموال كافية ووافية، ولذلك فإن التهدئة الجديدة أصبحت في حكم المؤكّدة، والتهدئة هذه المرة، وكما كان يُقال في كل مرة، تهدئة سيكتب لها النجاح والفلاح، والالتزام بها هذه المرة سيكون من النوع الحديدي، والضمانات موثوقة، ذلك أن الالتزامات السابقة كانت قصديرية، والضمانات "مخروقة"، والتوافقات كانت ملتبسة ومبهمة على عكس هذه المرّة!
الأموال مضاعفة، والفترة لم تعد محدودة، وحتى لو أُعلن عن مواعيد معينة لانتهاء المنحة فهي ليست من النوع المقدّس، والتجديد والتمديد تحصيل حاصل ما دامت النوايا سليمة، والأهداف محددة، وما دام الجميع ينشد الهدوء والسكينة، وما زالوا، وما دام الجميع يقدّر جيداً أزمات الجميع، ويتفّهم الحساسيات والمشكلات من كل نوع وصنف، ما خفيَ منها وما استتر أو أُعلن وظهر.
وبوصوله يرتفع الدخان الأبيض، ويتهيأ الجميع لمراسم التوقيع، وتبدأ الاحتفالات التي تعبر عن الانتصارات، ويتفرق الجمع ويُسدل على هذه الجولة من التصعيد الستار، بعد أن تكللت المساعي الحميدة بالظفر، بفعل الحنكة وبُعد النظر.
أما الفصائل، من كل أنواع الفصائل، فهي راضية مَرْضِيّة، مفعمة بالآمال بمرحلة من ستر الحال، وعن جولةٍ جديدة ومتجددة من التبرير والتفسير، لا يخلوان من الإشادات والتزوير.
بعض هذه الفصائل، سيُهمْهِم بعد أن كان يزأر ويُهمّر، أما بعضها الآخر فإنه سيعلن أن كل ما يجري لا يخدم القضية، لكن ما باليد من حيلة، وما من طريقة أخرى أو وسيلة. أما شعراء بعض تلك الفصائل وخطباؤها فسنرى منهم كل الغرائب والعجائب.
لن يتردد بعضهم في وصف الإنجازات بالفتح العظيم، ولن يبخلوا علينا بكل قصائد المدح والتعظيم.
بعد هذه الاحتفالات المتوجة بأكاليل الغار، سنكون جميعاً أمام الحقائق الدامغة التالية.
تكريس قطر كمقاول حصري وبصورة قد تكون للمرة الأولى، وقد تكون القلّة القليلة قد انتبهت لهذا الأمر، وأدركت أبعاده الجديدة...! بمن فيهم المصريون أنفسهم.
قطر هي المقاول الأساسي في كل قضية غزّة.. لماذا؟
ببساطة لأن مصر هي في حالة حرب غير معلنة مع تركيا وقطر، ليس بسبب العداء الذي استحكم بين الجهتين بعد إنهاء حكم "الإخوان" في مصر فقط، وإنما بسبب الصراع على غاز "المتوسط" وطرق مرور هذا الغاز.
مصر ردت على اتفاقية تركيا مع حكومة السرّاج بإعادة تفعيل اتفاقياتها السابقة مع اليونان وقبرص، وهي تسعى كما هو واضح لإقامة جبهة سياسية واقتصادية مع الأردن والعراق، والهدف واضح وهو قطع الطريق على مرور الغاز من الأراضي التركية وبناء محطات عملاقة في الأردن إلى البحر الأحمر برية وبحرية.
باختصار، مصر تحاول عزل تركيا عن الواقع العربي، وحصر تواجدها في قطر ومنع تمددها في الغرب الليبي.
بعد تأييد مصر (الموارب كما أرى) لكارثة التطبيع الإماراتية مع إسرائيل، أرادت تركيا وقطر الردّ على مصر في قطاع غزة، وأوعزت إلى حركة "حماس" برفع سقف المطالب إلى الحدود القصوى، بل إلى الحدود المستحيلة، وحمّلت الوسيط المصري هذه المطالب بهدف إفشال الوساطة المصرية والانتقال إلى المقاول الأساسي صاحب اليد الطولى في الأمر.
إسرائيل تدرك هذه اللعبة، وتعرف جيداً أن الوسيط المصري قد عاد إلى القاهرة بسرعة، ومن دون أن يحقق هذه المرة ولا أي نوع من النجاح، ناهيكم عن الاختراق، وهي - أي إسرائيل - تفضل الدور القطري لأنه صاحب مشروع التمويل، ولأنه الأقدر على إقناع "حماس"، ولأن إسرائيل ترغب بدرجة عالية من التفاهم والتنسيق مع الدوحة.
باختصار، حاولتُ في القسم الأول من هذا المقال أن أُضفي بعض الفكاهة لأن الفصائل في غزة، خصوصاً فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، لا يجوز لها الاستمرار في تجرُّع سُمّ هذه الكوميديا السوداء.
لا يجوز أن تستمر هذه المهزلة، وأن تتكرر وتُعاد من جديد بهذه ولهذه الدرجة من السخرية والاستهبال. لا يحق لأحد الاستمرار في لعبة الخداع هذه، ولا يجوز لفصائل عريقة في العمل الوطني أن تلعب هذا الدور.
الفصائل الإسلاموية أو شبه التشكيلات الخاصة التابعة لحركة حماس من "الباطن"، يجوز لها أن تلعب هذه اللعبة، وحتى حركة الجهاد الإسلامي التي تريد لأسباب خاصة ومعروفة للجميع أن تداري حركة حماس لا يجوز لها أن تستمر في هذه المهزلة، تحت يافطة المقاومة، في حين يعرف القاصي والداني أن الأمر ليس له أي علاقة بمشروع مقاومة، وأن كل المسألة تكمن من حيث الجوهر بالوسائل التي تريدها حركة حماس لكي تبقيها "قادرةً" على استمرار تحكُّمها بالقطاع.
والمأساة ليست محصورة فقط بهذا الجانب، وهو جانب مأساوي بكل المقاييس، أو ليت الأمر يتوقف عند هذا فقط.
الموضوع بكل بساطة يمكن أن يكون مجرد ترتيبات لما هو أخطر في القادم من الأيام.
ما هو السرّ الذي يجعل كل اليمين، من كل أنواع اليمين، يوافق على بقاء هذه الأحوال، ويتوسّل أحياناً لكي يأتي العمادي إلى غزة، وينتظرونه على أحرّ من الجمر، ويستقبلون أمواله بكل رحابة صدر؟
هل سأل أحد من الفصائل الوطنية نفسه هذا السؤال؟
أليس الواقع يقول إن إسرائيل والولايات المتحدة تعوّلان معاً على دور للقطاع يتم الإعداد له لكي يكون جزءاً من ترتيبات الخطة الأميركية "للسلام" في الشرق الأوسط؟
أعرف أن هذا المقال لا يستقيم إلا إذا أجبنا عن دور القيادة الرسمية والشرعية من هذه المخاوف، ولماذا لا تتحرك هذه القيادة لدرء هذا الخطر؟
والجواب واضح، حتى لو أن القيادة الشرعية حاولت وتحاول، لكنها تملك أن تقطع الطريق على كل من يخطط لتكريس انفصال القطاع، وتستطيع هذه القيادة أن تتقدم بالصيغة التي تُحرج الجميع وتضع هذا الجميع أمام مسؤولياته.