نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - من خلال مراقبة متغيرات استطلاعات الرأي في إسرائيل يلاحظ بكل وضوح أن الانزياحات والانتقالات الكبيرة في كتل التأييد التي يحسب حسابها إنما هي انزياحات في نفس المعسكرات وفي نفس الاتجاهات.
لم يلاحظ وبالرغم من كل الأزمات القائمة والمستفحلة سياسياً واقتصادياً وصحياً وكذلك اجتماعياً أي تغيرات جوهرية لجهة تغيير المشهد السياسي في إسرائيل.
وإذا أخذنا الفترة الفاصلة بين يومنا هذا وبين تاريخ تشكيل الحكومة الجديدة الأخيرة في إسرائيل، بعد أن انضم إليها حزب «أزرق ـ أبيض»، وبعد أن غادر غانتس منطقة «الوسط» وتخندق في منطقة اليمين، نجد أن المشهد السياسي على حاله. الليكود شهد صعوداً كبيراً في هذه الاستطلاعات وصلت إلى 41 مقعداً، ثم تهاويا كبيرا آخر وصل إلى 31 مقعداً.
هنا الانتقال ـ والأصح القول الانزياح ـ بقي في نفس دائرة اليمين، من يمين وسط إلى أقصى يمين اليمين نحو التطرف والفاشية، وفي الحالتين، حالة الصعود وحالة التهاوي. فهذه المقاعد العشرة ذهبت إلى الليكود على حساب اليمين المتطرف وعلى حساب مجموعة غانتس عدد ثلاثة مقاعد، وعادت إلى اليمين المتطرف وإلى جماعة لبيد بصورة نسبية.
لم يتغير المشهد السياسي إطلاقاً، ولم تحدث الازمات غير المسبوقة سوى أن يظل اليميني يمينياً، اما متطرفاً أو أقل تطرقاً قليلاً، ولم يحدث في اوساط الوسط اي تغير جوهري. إذ إن بعض مناصري غانتس ذهبوا إلى الليكود بعد «استسلام» غانتس وتنصله الكامل من وسطيته اثناء فترة صعود الليكود، أما بعضهم الآخر فقد عادوا إلى جماعة «لبيد»، في حين ذهب الكثيرون من اليمينيين إلى «بينيت» أثناء هبوط وتهاوي الليكود بعد أن خاب أملهم بالليكود بعد تراجع «الضمّ»، وبعد الفشل الكبير في معالجة ازمة الحكومة وازمة «كورونا»، وأزمة الاقتصاد.
أما باقي القوى من القوى اليمينية الدينية فقد بقيت على حالها لأن التصويت لها أصلاً هو تصويت «طائفي» مغلق، والأصوات التي تحصل عليها هذه القوى تكاد تكون معروفة سلفاً، وأحجام الزيادة والنقصان محدودة للغاية ومحصورة نسبياً.
ينطبق هذا الأمر على مجموعة ليبرمان لأن الغالبية الساحقة من المصوتين له هم من الروس في حين ان نسبة المصوتين من خارج «الطائفة الروسية» لا يتجاوزون أكثر من 10 ـ 15% من حجم الأصوات.
حتى «اليسار» نفسه ويسار الوسط في اسرائيل اصبح محكوماً بحجم يصعب تجاوزه لأن تدهور حزب العمل وتسرب مصوتيه لا يتجاوز منطقة الوسط واليسار، وأصواته التي تتبعثر هنا وهناك لا تصل أبداً إلى منطقة اليمين أو اليمين المتطرف، وأقصى ما يمكن أن تصل إليه هو يمين الوسط وهي الحالة التي كان يمثلها غانتس إلى ما قبل سقوطه الأخير بين أنياب الليكود.
وحتى القائمة المشتركة فهي الأخرى لا تختلف عن حالة التموضع السياسي وخلفيات هذا التموضع، إذ أن الغالبية الساحقة من مصوتي هذه القائمة هم من الفلسطينيين، في حين أن الصوت «اليهودي» المنحاز لها ما زال ضعيفاً بالرغم من أهميته الكبيرة والاستثنائية، وبالرغم من الازدياد الملحوظ في الانتخابات الأخيرة، ما يجعل حتى بالمقاييس الحالية حالة «القائمة المشتركة» حالة فريدة في الواقع السياسي الإسرائيلي، وحالة مبشرة مرشحة للخروج التام من دائرة التموضع السياسي الطوائفي، بالمعنى الديني والمذهبي والعرقي والقومي الواسع، وليس بالمعنى الطائفي الضيق للكلمة.
إن كان لهذه المسألة من أهمية فهي أن هذا المجتمع هو مجتمع تقليدي من حيث بنيته السياسية الاجتماعية الأساسية بالرغم من كل مظاهر الحداثة في التمظهرات التي تطفو على سطح هذا المجتمع.
وكذلك فإن التمحور السياسي فيه ما زال محكوماً إلى درجة ليست بسيطة بهذه البنية التقليدية.
لكن الاستنتاج الأكثر أهمية والأكثر جوهرية هنا هو أن هذا المجتمع المسكون بهواجس الأمن والمظلومية التاريخية والأحقيات الخرافية وصولاً إلى هواجس «التفوق» والفردانية لن يتغير بسهولة إلاّ إذا تعرض إلى هزات سياسية كبيرة وإلى ازمات اقتصادية واجتماعية عنيفة تحدث خلخلة حقيقية في كامل هذا البنيان.
أذكر بهذا الصدد نقاشا كنت قد أجريته مع الصديق العزيز أنطون شلحت حول هذا الواقع بالذات والذي أكد لي من خلاله أن المجتمع الإسرائيلي «يحتاج» إلى صدمة كبيرة لكي يحدث فيه ما يمكن أن يمهد لعملية تغيير سياسي كبير أو العبور نحو مرحلة سياسية جديدة.
لتبسيط المسألة قليلاً ـ أو لتعقيدها ربما (لا أعرف) ـ دعونا نرجع إلى المقولة الماركسية المعروفة والتي تفسر قدوم أو حدوث الثورات الاجتماعية بعجز علاقات الإنتاج عن تحفيز تطور القوى المنتجة في مراحلة أولى ثم إعاقة وكبح هذا التطور في مراحل لاحقة.... . عندما يحصل ذلك ترى النظرية الماركسية أن ساعة الثورة الاجتماعية قد بدأت تدق.
هذا المثال هو مجرد مثال توضيحي لشرح الفكرة التالية:
على ما يبدو فإن المجتمع الإسرائيلي التقليدي في بنيته السياسية من حيث الجوهر، قد وصل إلى حدود الإغلاق والانغلاق السياسي. وأصبح «التغيير» الجوهري فيه صعباً إن لم نقل مستحيلاً في ظل تحكم البنية التقليدية بالتموضعات السياسية فيه إلاّ عبر «الصدمة»، أو عبر حركات اجتماعية عابرة لهذه البنية وقادرة على تجاوز هواجسها ومعتقداتها الخرقاء وقابلة للتحول من حركات اجتماعية احتجاجية إلى حركات اجتماعية سياسية هادفة باتجاه الوصول إلى تحطيم هذه البنى، والاستعاضة عنها ببنى سياسية جديدة، قائمة على العقلانية العملية، وليس على المعتقدات القرواوسطية، أو الغيبيات التي تتحول إلى مصالح سياسية خاصة، وعلى المصالح السياسية المباشرة المعبرة عن مصالح اقتصادية واجتماعية لفئات وطبقات أصبحت متضررة من بقاء وتحكم هذه البنى الرجعية في الواقع.
وصلت الأمور في إسرائيل إلى ما بات يعرف بالانسداد التاريخي.
لو جرت انتخابات جديدة لن يحدث غير الذي حدث، ولن يتمخض عن هذه الانتخابات أي جديد جوهري أو مهم. وحتى لو انتقل نصف أعضاء الليكود إلى اليمين الجديد أو انتقل نصف أعضاء اليمين الجديد إلى الليكود فما هو الجديد في الأمر؟ الجواب لا شيء.
وفي إطار الوسط ويمين الوسط ويساره فما الذي سيحدث؟ الأحزاب الدينية ستبقى هناك تدافع عن مصالح طوائفها، وليبرمان سيبقى يراهن على الصوت «الروسي» و»القائمة المشتركة» ستبقى ذات أغلبية ساحقة فلسطينية.
ناهيكم طبعاً عن عوامل الطرد واللفظ الذي بات يمثله الواقع الإسرائيلي لكل التوجهات الليبرالية والمتنورة والتي ما زالت تحتفظ بدرجة أو أخرى من الحساسية تجاه المسألة الإنسانية الخالصة!
المجتمع الإسرائيلي لم يعد قادراً ببنيته السياسية الحالية على حل مشكلات الواقع الإسرائيلي، لأن هذه البنية بالذات هي بنية رجعية تقليدية معيقة للتطور الاجتماعي، وبات الاحتجاج وصولاً الى الخلخلة والتحطيم هو الحل الوحيد الذي يمكنه إحداث فرق حقيقي.
وإحداث فرق حقيقي غير ممكن من دون أن تتحول حركة الاحتجاج إلى قوة سياسية عقلانية شجاعة في النظر إلى الحقوق والأهداف الوطنية الفلسطينية.
من دون ذلك، ومن دون فلسطين، إسرائيل ليس أمامها سوى تكرار ما تم تكراره، والدخول إلى نفس الدائرة التي حاولت أن تخرج منها دون طائل أو نتيجة.
نقلا عن صحيفة الايام