أنور رجب - النجاح الإخباري - وفق المنظومة الفكرية لحزب التحرير فإن استدعاء أو استعادة "الخلافة الإسلامية الراشدة" تعتبر الفكرة المركزية والرئيسة التي بنى عليها مشروعه السياسي، وقد يبدو ذلك شيئا طبيعيا بوصفه حزبا إسلاميا سياسيا يدعو إلى تبني مفاهيم الإسلام وأنظمته وتثقيف الناس به والدعوة إليه، كما يصف نفسه، لا سيما وأن فكرة "استعادة الخلافة" تسيطر على غالبية جماعات وأحزاب الإسلام السياسي، ولكن حزب التحرير يتبنى رؤية خاصة به لتطبيق مشروعه لا يشذ فيه عن باقي جماعات الإسلام السياسي وحسب بل وعن المنطق والعقلانية والواقعية والموضوعية، إذ أن رؤيته لاستعادة الخلافة يمكن وصفها بالرؤية الطوباوية المقولبة لدرجة الجمود وفق ما خطها مؤسس الحزب تقي الدين النبهاني وسعى لتطبيقها حرفيا وسار عليها من جاء بعده دون أي تحديث أو تغيير، وفيها يقدم الحزب الدولة على الدعوة، فهو يرى وجوب الوصول للحكم أولا من خلال الكفاح السياسي لإيجاد الدولة الاسلامية التي تطبق الإسلام ثم تحمل دعوته إلى العالم ثم تكون "الخلافة الاسلامية على منهاج النبوة"، وحتى يتحقق ذلك لا بد وأن "تكون الكتلة التي تحمل الدعوة الإسلامية كتلة سياسية، ولا يجوز ان تكون كتلة روحية أو خلقية أو علمية أو تعليمية ولا شيء من ذلك أو ما يشبهه، ومن هنا كان حزب التحرير حزبا سياسيا يشتغل بالسياسة"، ولكن كيف يستقيم ذلك والحزب لا يؤمن بالمشاركة السياسية ضمن منظومة الدولة المدنية التي يكفر بها ويكفرها، ولو حتى من باب التدرج والواقعية والتكيف مع الظروف القائمة أو حتى من باب التورية بشكل يتنافى كليا مع أبجديات العمل السياسي، وبما يعبر عن غموض وفوضوية واضحة في الآليات التي ستقوده لتنفيذ مشروعه؟؟
تقوم رؤية الحزب في تطبيق فكرته الرئيسية "استدعاء الخلافة" على مجموعة من الفرضيات والأسس التي تبرز طوباوية الفكرة وجمودها وتحجرها، إذ أن منهجه في ذلك قائم على استحضار نموذج دولة المدينة التي أسسها رسولنا الكريم واتساع رقعتها على يد الخلفاء الراشدين بكل تفاصيلها التاريخية قبل 1400 عام ونيف وإسقاطها على واقعنا اليوم بطريقة حرفية دون مراعاة لحجم التحولات والتغيرات الهائلة التي فرضتها وقائع الزمان والمكان، وبذلك تقدمت الأمور والقضايا الشكلية على حساب جوهر وروح دولة المدينة التي نعرفها، لا بل وإسقاط ما دار في تلك الحقبة التاريخية على واقع ومسيرة الحزب "لقد شاء الله لنا أن نكون أولئك الذين يحملون هم إقامة أمر الله على طريقة الرسول وأنبيائه، وشاء سبحانه أن نمر بنفس ما مروا به من ابتلاءات من تكذيب وتعذيب وإخراج وإشاعة واستضعاف وسنة تأخير للنصر… وهنا يمكن القول إن هذه الدعوة إن لم تمر بما مر به الأوائل فهي لن تحقق هدفها وعليها أن تراجع نفسها".
ووفق هذا يقسم الحزب مراحل تحقيق حلم الخلافة إلى ثلاث مراحل استوحاها من مراحل تطور دولة المدينة وهي: مرحلة التثقيف ثم مرحلة التفاعل مع الأمة "الصراع الفكري" بهدف شحن الرأي العام وتعبئته من خلال الكفاح السياسي الذي يتطلب أسلمة الحياة العامة، ثم مرحلة استلام الحكم من خلال طلب النصرة من أهل القوة والمنعة (الجيش– القبائل– الحكام)، وكل مرحلة لها تفاصيلها استنادا لأحداث وروايات تاريخية حدثت زمن تشكل دولة المدينة، وباستحضار التطبيق الحرفي وفق أدبيات الحزب لنشأة وتطور دولة المدينة التي استغرقت ثلاثة عشر عاما، فقد وجب على حزب التحرير مراجعة نفسه بعد أن مضى ما يقارب سبعين عاما على تأسيسه دون أن يحقق ولو خطوة واحدة من مراحل تحقيق حلم الدولة الإسلامية، ولكنه بدل ذلك ألقى باللوم على الأمة التي اعتبرها آثمة، كونه يرى أنه "لا يحل للمسلمين أن يبيتوا ثلاث ليال دون بيعة، وإذا خلا المسلمون من خليفة ثلاثة أيام أثموا جميعا"، لا سيما وأن مسألة تنصيب خليفة للمسلمين تأخذ مكانا متقدما ورئيسا في رؤية الحزب، انطلاقا من مقولة "إن من يمت وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية"، وباعتبار الخليفة هو وحده الذي يمتلك حق التشريع وسن القوانين بوصفه ينوب عن الأمة في الحكم والتشريع. وربما كان هذا السبب في سلوك الحزب الشاذ والغريب حتى ضمن الفهم الثيوقراطي الذي يتبناه الحزب حين طلب من آية الله الخميني أن يكون خليفة للمسلمين بعد نجاح انقلاب الملالي في إيران عام 1978.
يتعامل الحزب مع المجتمعات الإسلامية بوصفها مجتمعات آثمة، وبالتالي هي تقع ضمن التصنيف بأنها "دار كفر" وليست "دار اسلام"، وبذلك هو يعبر عن فهم شديد التطرف لا يختلف فيه عن داعش والجماعات الارهابية الأخرى وما يتبع هذا الفهم من تقسيم ثنائي استقطابي حاد بين اهل الحق وأهل الباطل، التي تضع الحزب في كفة الحق بوصفه "الضمانة الحقيقية لإقامة الدولة الإسلامية وباقي أفراد المجتمع "الآثمين" في كفة الباطل، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام مفاهيم أكثر تطرفا تؤسس في تقاطعها مع جماعات أخرى لتشريع العنف والإرهاب، الأمر الذي لا يستقيم معه موقف الحزب من رفض استخدام العنف بشكل مباشر في تطبيق رؤيته من ناحية، ولا يعفيه من المسؤولية في نشر التطرف والإرهاب من ناحية أخرى، لا سيما وأن فكرة "طلب النصرة من أهل القوة والمنعة" قد تكون النافذة لاستخدام العنف من خلال وكيل أو طرف ثالث، وفي هذا يرى بعض قيادات الحزب أن فشل "ثورات الربيع العربي" في تحقيق أهدافها هو أن الجيش (من أهل القوة والمنعة التي يطلب منها النصرة) الذي وقف لجانب الثورات لم يقم بتسليم الحكم إلى حزب التحرير!!
تظهر نرجسية الحزب وطوباويته في ادعائه بأن دولة الخلافة لا تقوم إلا بالدستور الذي وضعه الحزب لهذه الدولة ولا تقوم بغيره، وهذا الاعتقاد يقودنا إلى مفاهيم استعلائية عنصرية تتبناها الجماعات المتطرفة والارهابية مثل "الاصطفاء، والطائفة المنصورة، وحزب الله، والفرقة الناجية"، وربما هذا ما حدا بأحد قيادات الحزب للقول بأن "الحزب جاهز لاستلام الخلافة في أي وقت بفضل البرامج التي يمتلكها لتسيير الدولة" بفضل ذلك الدستور، ولكن بنظرة فاحصة لما يتضمنه الدستور سنجد أن الحزب يتقاطع مع تنظيم داعش والجماعات الإرهابية الأخرى في تكفير الأنظمة والأحزاب والديمقراطية والتعددية السياسية، حيث يرفض إقامة أحزاب في الدولة الموعودة لا تقوم على العقيدة الإسلامية، ويرى في الديمقراطية وما ينتج عنها من آدوات وآليات نظام كفر، ويرفض مفهوم المواطنة ويستبدله بقراءات ثيوقراطية تهدد وحدة واستقرار المجتمع. ويمعن الحزب في تقديم تصورات جامدة متحجرة منافية للواقع والمنطق والعقل، ولا تستجيب للتحولات والتغيرات التي واكبت تطور الحضارات منذ 1400 عام وحتى الآن، إذ يقرر بأنه "لا يجوز للدولة أن تشترك في المنظمات التي تقوم على غير أساس الإسلام، أو تطبق أحكاما غير أحكام الإسلام، وذلك كالمنظمات الدولية مثل هيئة الأمم، ومحكمة العدل الدولية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وكالمنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية"، ولعل الحزب في هذا ما زال يتصور أن الماء والكلأ كفيلان وحدهما بأن يحافظا على حياة البشر والدولة.
وبالعودة إلى نظرية الحزب ورؤيته في "استدعاء الخلافة"، فيمكن القول إنها تقوم على استعداء الدولة الوطنية الحديثة، حيث تضع هذه الرؤية الحزب بالقطع في مواجهة الدولة الوطنية التي لا يعترف ولا يؤمن بها، ويعمل على استبدالها بنظام "الخلافة الإسلامية"، وعليه فإن استهداف الدولة الوطنية وأنظمة الحكم القائمة فيها هو نقطة الانطلاق المركزية في "الكفاح السياسي" الذي يؤمن به وينظر له الحزب، وبالتالي لا غرابة فيما نراه ونعايشه في واقعنا الفلسطيني من الاستهداف المنظم والدائم للسلطة الوطنية ومؤسساتها من قبل حزب التحرير، وتحشيد وتجييش المسيرات والمظاهرات للتنديد بالسلطة بمناسبة وبغير مناسبة، في حين يغفل ويتجاهل عن قصد توجيه تلك الحشود والمسيرات باتجاه الاحتلال الإسرائيلي، ويقف منددا ومحرضا أمام كل محاولة لإحداث نوع من التطور والتحديث والتجديد في أي منحى من مناحي الحياة، مستغلا منابر المساجد، ووسائل الإعلام بكافة تفرعاتها للتحريض ضد السلطة الوطنية ومؤسساتها، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن فهمه للكفاح السياسي يكون بـ"رصد الحوادث والوقائع، وجعل هذه الحوادث والوقائع تنطق بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها فتحصل على ثقة الجماهير"، وهذا يعني تديين الوقائع والأحداث بما يخدم أجندة الحزب بغض النظر عن مدى صحة وموائمة هذه المواقف مع المصلحة العامة، وهذا ما لمسناه واقعا في عدة مواقف للحزب نذكر منها موقفه الرافض والتحريضي على قانون الضمان الاجتماعي، واتفاقية سيداو، وتجديد المناهج التعليمية وتحديثها بما ينسجم مع صحيح الاسلام وسماحته، ويصر على الإبقاء على مفاهيم وشروحات عنصرية فوقية متطرفة تتعارض مع مفهوم المواطنة واستقرار المجتمع ووحدته، وتحاكي التراث والتاريخ لا الحاضر والمستقبل، ومؤخرا مواقفه المتناقضة التي تثير الغرابة والاستهجان حول وباء الكورونا وما جناه على أبناء شعبنا من كوارث بسببها، وبدل من أن يراجع تلك المواقف أنحى باللائمة على السلطة الوطنية ومؤسساتها.
بقي أن نقول إن هذه الرؤية الأسطورية التراثية الغارقة في تفاصيل التاريخ، تنشد شكلا من أشكال الحكم ونمطا متخيلا يستحيل تطبيقه واقعا، وهو ما يمنح الحزب مبررا يسوقه وغطاء يستر به تقاعسه عن المشاركة الفاعلة والجادة والحقيقية في معركة تحرير الأرض والمقدسات، وتبقيه آمنا من استحقاقات تلك المشاركة، فهو مازال يخوض معركة الوعي والتثقيف التي لن تنتهي وسيظل يدور في حلقاتها المفرغة دون الولوج للمرحلة الثالثة، مرحلة استلام الحكم وإقامة الدولة الإسلامية، لا سيما وأن أهم ملامح هذا العصر التي جلبها التطور التكنولوجي والمعرفي هو إزالة القداسة عن الأشخاص والأفكار، وتحرير الدين من قبضة التراث والتاريخ والسياسة.