ناجي صادق شراب - النجاح الإخباري - قبل الولوج إلى تحدي المشكلة السكانية في غزه لا بد من الإشارة إلى ان المشكلة السكانية هي الأكبر التي تواجه العالم ومنظماته الدولية، وهنا أذكر بالرسالة التي بعث بها خمسة عشر ألف عالم في مختلف مجالات العلوم الطبيعية إلى مؤتمر الأمم المتحدة الذي عقد في برلين عام 2017 عبروا فيها عن القلق الكبير من تزايد عدد سكان العالم، و حذروا من التكاثر السكاني، وأن الانتقال من الطاقة الملوثة إلى الطاقة الخضراء يحتاج إلى نمو سكاني مضبوط حسب الاحتياجات الاقتصادية، وتنامي المطالب المادية ، وحسب قدرة الموارد الطبيعية المتاحة لدول العالم لاستيعاب هذه الزياده والاحتياجات.
بلغ عدد سكان العالم في منتصف القرن العشرين ملياري نسمة ووصل العدداليوم إلى ثمانية مليارات نسمة والتوقع زيادة الرقم بشكل كبير في العقود القادمة.
هذه المشكلة يصاحبها نمو الاستهلاك الفردي والمشاكل المتعلقة بنقص المياه والطاقة ومشاكل المناخ، وتقلص الأرض الزراعية وزيادة نسب التلوث البيئي.
هذه المقدمة الموجزة توضح لنا خطورة المشكلة عالميا وعلى مستوى دول ومنظمات لديها الكثير من ألإمكانات والقدرات.
والسؤال الذي يطرح هنا هو: ماذا عن هذه المشكلة على مستوى غزة؟
أعتقد ان هذه هي المشكلة الحقيقية التي تفوق قدرات من يحكم ويفكر ان يحكم غزه. فبمقارنة العدد والمساحة يبدو لنا أن غزة قد تشكل صورة مصغرة للمشكلة السكانية العالمية. فالمشكلة في غزه ليست مشكلة حكم ، ولا سيطرة وهيمنة سياسية، فهذه كلها مرهونة بظروف سياسية قابله للتغيّر.
اليوم يتجاوز عدد سكان قطاع غزة المليوني نسمة يعيشون على مساحة كلية تبلغ 340 كيلو مترا مربعا، ولو طرحنا ما هو مخصص للبناء والسكن والطرق والزراعة والمشاريع الصناعية على قلتها تبدو لنا جسامة وكابوس المشكلة في السنوات القادمة. فلنتخيل كم يعيش على مساحة الكيلو متر المربع، في بعض المناطق. الرقم يتجاوز المائة الف، ما يعني ان غزة الأكثر كثافة سكانية في العالم.
وخطورة المشكلة تتضح لنا مع فقر الأرض، فلا موارد طبيعية، ولا مياه جوفية، وهناك زيادة نسب التلوث التي تتعدد مصادرها المعروفة وغير المعروفة.
وهنا عدد من الملاحظات : الأولى قابلية العدد للزيادة بطريقة غير منضبطة ومحسوبة لأسباب تتعلق بزيادة حالات الزواج رغم الفقر والبطالة التي تعاني منها شريحة الشباب بشكل خاص، والاعتقاد الديني بان تحديد النسل حرام، وأن الطفل يأتي ورزقه معه.
الملاحظة الثانية، ان قطاع غزة يعتبر من اكثر المناطق في العالم استهلاكا، فالمجتمع الغزي مجتمع إستهلاكي ، وزيادة عدد السكان يعني زيادة الطلب على الإستهلاك. وفي الوقت ذاته، وهذه هي الملاحظة الثالثة، هناك ضعف وتدني وتراجع القدرة على تلبية الإحتياجات الإستهلاكية لأسباب كثيره منها ضعف الدخل بل وإنعدامه في الكثير من الحالات. ومن ناحية أخرى ضعف قدرة من يحكم على تحسين ألآداء الاقتصادى وتنمية الموارد الطبيعية لزيادة القدرة على الاستجابة.
والنتيجة الحتمية اتساع الفجوة بين الزياده السكانيه وانخفاض سلم القدرة وهذا ما قد يعبر عنه بالإحباط واليأس والغربة وانتشار أفكار العنف والتنظيمات المتشددة التي قد تستغل هذه الحالة في اوساط الشاب لاستقطابهم في اعمال غير منتجة، وزيادة حالات الانتحار ومحاولات الانتحار كما نرى في السنوات الإخيرة.
والملاحظة الرابعة تحول المجتمع الغزي من مجتمع مدني معتدل إلى مجتمع مغلق متشدد، وهو ما قد يقود في المدى القريب إلى إنفجار سكاني داخلي يعبر عن نفسه في زيادة حالات الانتحار والقتل والسرقة.
الملاحظة الخامسة تقلص المساحة السكانية ،وانعدام المشاريع العملاقه لزيادة المساحة على حساب البحر فهذا يفوق القدرات المتاحة، ومن ناحية أخرى غلق الحدود المجاورة.
الملاحظة السادسه: لعل المفارقة الوحيدة التي يمكن أن تستوعب الحاجة للعمالة ، ومن ثم تقلل من فرص الانفجار الانفتاح على إسرائيل بالمساهمة في عمليات البناء والزراعة فيها، وهذا يستوجب إعادة الإعتبار والنظر في ماهية العلاقة مع إسرائيل. والملاحظة السابعة التي قد تدفع وتسرع الانفجار الاستثمار في امتلاك السلاح بأي ثمن، وعلى أهمية القوة العسكرية فأنا أتحد ث عن الإنفاق الذى يأتي على حساب تنمية البنية المدنية والاقتصادية ورفع القدرات الاستخراجية للقطاع حتى يكون قادرا على تلبية الحاجات المتزايدة للسكان، وتقليل فرص الانفجار السكاني.
الملاحظة الثامنة تتعلق بالطبيعة الجيوسياسية والطبوغرافية لغزة التي لا تجعل منها منطقة صالحة للعمل العسكري ، وتعدد الجماعات المالكة للسلاح مما يزيد من مخاطر الإقتتال الداخلي عند أي منعطف وتحول سياسي. وهذا ما حدث فعلا بين حركة حماس وبعض الجماعات المتشددة. فغزة منطقة ضيقه بدون عمق وليست طولية، وتفتقر للمناطق الهضبية والجبلية ، وهي منطقة منخضة من السهل التحكم في كل منافذها.
الملاحظة التاسعة ان خيار الحرب لا يعمل لصالح غزة، وهنا الإنفاق العسكرى الكبير قد ينهار ويدمر في حرب واحدة، وهذا ما تريده وتعمل عليه إسرائيل، وهو نفس النموذج الذى لجأت إليه الولايات المتحدة مع الإتحاد السوفييتي الذي أثقله الإنفاق العسكري .
الملاحظة العاشرة وألأخيرة ان مشكلة غزة في الافتقار للرؤية التنموية الشاملة، والتركيز فقط على الرؤية العسكرية. وهذا من شأنه ان يزيد من الأعباء السكانية ، ويقرب من درجة الانفجار الداخلي، ناهيك عن ان القطاع بسكانه يعتمد فقط على الرواتب والمنح والمعونات المالية التي تقدم والتي تهدف فقط لتأخير عملية الانفجار، بل تحول سكانه لحالة من التبعية والإعالة.
وكما هو معلوم ان قطاع غزة يعاني من نقص حاد في مشاريع البنية التحتية ، ومن مصادر الطاقة كالكهرباء والمياه، ويحتاج إلى المليارات من الدولارات، وهو امر غير متاح وبعيد التحقق، وقد يتم بالقبول بصفقة القرن! وهذا أحد الاحتمالات المتوقعة. غزة ليست معادلة حكم، وليست معادلة مقاومة فقط. غزة رؤية سكانية، ورؤية تنموية ، ومن يريد ان يحكم غزة عليه أن يملك هذه الرؤية التنموية. ومن الخطأ التفكير في غزة من منظور انها حكم لجماعة واحدة، تربط مستقبلها للمراهنة السياسية على ما يمكن ان يحدث في ألإقليم، وتعيد حكم الأخوان مثلا.
ولو قارنا بين الوضعين في الضفة الغربية وقطاع غزه سنجد الفجوة الكبيرة بين المنطقتين، في كل المجالات، سواء من حيث مشاريع البنية التحتية ، وفرص العمل المتاحة لأكثر من مائة الف يعملون داخل إسرائيل. وفرص عمل افضل نسبيا في الضفة، وانفتاح وتواصل خارجى ملموس يخفف حالة الاختناق، وهو عكس الوضع في غزة التي تعيش داخل صندوق مغلق مفاتيحه ليست بيد أصحابها.