عاطف ابو سيف - النجاح الإخباري - عاد الحديث عن إطلاق صفقة ترامب المسماة «صفقة القرن» مجدداً؛ بعد الحديث عن قرب إعلانها ودعوة نتنياهو للبيت الأبيض للقاء ترامب بهذا الشأن. والصفقة التي توارت كثيراً عن الأنظار لفترات مختلفة لم تغب بشكل كامل يوماً عن المشهد الشرق أوسطي الذي عمل ترامب على صياغته، وشكلت فيه مصالح إسرائيل الأساس. حتى في اللحظات التي أصيبت فيها مشاريع ترامب بنكسات وتراجعات، ظلت الصفقة في الظل تلوح من بعيد، خاصة بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل في مخالفة لكل المواقف الدولية وفي انحياز غير مسبوق المستوي. ومع هذا فهل ثمة ما يقلق في كل ذلك فلسطينياً؟
المؤكد أن الفلسطينيين كانوا ضحايا المؤسسة الدولية والقانون الدولي الجائر الذي أجهز على الكثير من حقوقهم، بل إن أغلب هذه الحقوق تم ذبحها وسلخها في مسالخ هذه القوانين وأمام أعين الناس. ولا بد أن نجاة الفلسطينيين من الفناء والتبخر، كما أرادت الحركة الصهيونية، معجزة من نوع خاص يدينون بها لتضحيات الشهداء والجرحى والأسرى ولإصرار هذا الشعب على البقاء.
حتى في أسوأ كوابيس القتلة الذين ارتكبوا المجازر بحق الفلسطينيين العزل عام 1948، فإن تطور وطنية فلسطينية ونشوء حلم جمعي بين الفلسطينيين يبحث عن دولة ويقاتل من أجلها، لم يكن أمراً وارداً. وربما الهمجية والبربرية التي تم خلالها تنفيذ المذابح وعمليات التهجير بحق العزل والأبرياء وبقر بطون الحوامل وذبح الشيوخ وكبار السن على الطريقة الداعشية قبل مائة عام من ظهور «داعش»، كل هذه كانت تكشف حجم ما كان يراد للشعب الفلسطيني أن يؤول إليه: أن ينتهي، أن يتبخر، أن يكون شيئاً من الماضي. وربما حين يسير الفلسطيني في شوارع المدن الكبرى التي تم تهجير سكانها أو قرب أشجار الصبار في بقايا القرى المهّجرة، يفكر بمئات الاحتمالات التي كان يمكن أن تتم لو لم تتم النكبة، لكن الاحتمال الوحيد الذي لا يخطر بباله هو أنه ما كان يجب أن يستمر في البقاء. ومع هذا فقد استمر الشعب الفلسطيني في البقاء على الأرض وفي بنائها وتعميرها رغم كل عمليات الهدم.
ثمة تشابه ليس غريباً بين وعد بلفور وبين صفقة ترامب المشؤومة من حيث جهة الوعد والموعد والموعَد به. فلا صلة لشيء بالآخر في كل ما ورد بوعد اللورد الإنجليزي الأكثر حقداً ولاإنسانية في التاريخ. وربما استحضار وعد بلفور في الخطابة الوطنية المناهضة لصفقة ترامب ليس صدفة، فالرجلان يعِدان من لا يستحق بما لا يملكان. ويمكن تذكر حتى الشعارات المناهضة التي خرجت في شوارع القدس ويافا بعد صدور وعد بلفور وربطها بالشعارات التي يصدح بها الشبان والشابات في المسيرات الغاضبة احتجاجاً على صفقة ترامب. هذا الاستدعاء في التشابه لا يجب أن يغيب عن بالنا في كل الأحوال.
أكثر من مائة عام مرت على وعد بلفور المشؤوم، وأقيمت دولة غريبة على أرض شعب ملك الأرض قبل آلاف السنين، وتم تهجير سكان الأرض واستيراد غرباء من نواحي الأرض الأربع، ليصبحوا سكان الدولة الجديدة، وكل هذا لم يؤثر على حقيقة أن البلاد لأهلها. لا شيء يتغير بالنسبة للفلسطينيين مهما تعاظمت قوة الاحتلال ومهما تعرضوا للبطش والتنكيل والتعذيب. قد يكون بلفور قلب موازين القوة في المنطقة ومنح انتدابه لفلسطين الأرض لغير أهلها، وقد يكون تم تصميم نظام دولي بعد الحرب العالمية الثانية ومنح بعض المناطق الاستقلال وسميت دولاً حتى تشارك بالتصويت لصالح تقسيم فلسطين، وبالتالي شرعنة الدولة الاستعمارية القادمة، لكن هذا لم يقنع طفلاً فلسطينياً، في ذلك الوقت ولا حتى الآن بعد أكثر من سبعين عاماً على النكبة، بأن الأرض ليست لأصحابها. هذه ليست بلاغة بل حقائق يمكن قياسها بنجاعة من خلال استطلاع آراء طلاب المدارس الفلسطينيين في الوطن والشتات. وكما مضى بلفور سيمضي ترامب. وستظل وعود ترامب لنتنياهو حول القدس وحول سحق الحقوق الفلسطينية وعوداً سوداء تضاف إلى الجرائم السياسية والقانونية التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، أما الحق فلا يضيع.
يستطيع ترامب أن يجمع كل زعماء العالم ويهددهم ويتوعدهم إن هم لم يصادقوا على وعوده. ويستطيع أن يقنع زعماء العالم الإسلامي بأن القدس لم تعد إسلامية، وبأنه قادر على فرض إراداته الأرضية على كل قوة أخرى. ويمكن له أن يقنع القادة العرب أن مصلحة العرب جميعاً تتطلب موافقتهم ودعمهم وتمويلهم لصفقة القرن وأن بقاء العرب وعدم فنائهم مرتبطان بتضحيتهم الطوعية بإخوتهم الفلسطينيين، ويستطيع أن يكتب روايات بطولية دونكشوتية وقصائد فخر عنترية، وأكثر من كل ذلك، لكنه لن يستطيع أن يقنع طفلاً فلسطينياً بأن فلسطين ليست بلاده وبأن حقه في العودة لها ليس محتوماً، كما لن يجد فلسطينياً حقيقياً يوقّع له على ما يريد.
يمكن لكل العالم أن يوافق ترامب الرأي، ويمكن لكل قادة الكون أن يوقعوا على ما يريد، لكن المطلوب ليس هؤلاء، المطلوب هو الموافقة الفلسطينية على الصفقة. وما لم يحدث هذا فإن كل شيء سيذهب يوماً هباءً منثوراً.
مرة أخرى، لو وقّع كل العالم ولم يوقّع «القلم» الفلسطيني، فإن شيئاً لن يغير من حقيقة المستقبل الذي يتم السعي إليه. وحده القلم الفلسطيني الذي يملك الحق في التوقيع، وما لم يوقّع فإن أحاديث ترامب ووعوده وصفقاته ستذهب كما ذهب كل ما سبقها من محاولات بائسة لإجهاض حقوق الشعب الفلسطيني. ولكن هذا يتطلب تماسكاً فلسطينياً داخلياً حتى تمضي المؤامرة.
نقلا عن صحيفة الأيام